ا[b]فتراضي تخريج كلام من قال من أهل السنة : "كلام الله بحروف وأصوات"
هل القول بأن الله عزوجل يتكلم بصوت وحرف من أقوال الاشاعره أم أنهم لايقولون إلا بالكلام النفسي فقط؟[/b]
جواب شيخنا الأزهري:
ههنا تفصيل دقيق لا بد من الانتباه إليه عند الكلام على قول الأشاعرة والحنابلة والحشوية في هذه المسألة وسأحاول تسهيله إلى أقصى حد:
عندما نقول (كلام الله بكذا وكذا) فلا بد أن نفهم أن الكلام قد يقصد به الصفة القديمة القائمة بذاته تعالى المجردة عن أي شيء آخر يصحبها، وكلام الأشاعرة غالبا يكون على هذا النوع لأنه المقصود بالكلام على الحقيقة.
وربما يقصد به الصفة القديمة وما صحبها من عوارض عرضت واقترنت بهذه الصفة القديمة وهو مقصود الحنابلة.
فههنا عندنا أصل الصفة وعندنا عوارض تصحب هذه الصفة في بعض الأحيان.
وللتقريب أكثر أضرب هذا المثال:
نقول: (أمطرت السماء برعد وبرق)
فلو قال قائل: "إن المطر ليس برعد ولا ببرق" لكان صادقا.
ولو قال آخر: "نزل المطر برعد وبرق" لكان صادقا.
لأن الأول لما قال ليس برعد ولا برق أراد أن حقيقة المطر تختلف عن حقيقة الرعد والبرق، وإنما لما نزل المطر جاء معه وصحبه صوت الرعد ولمعان البرق فهو مختلف عنهما، ففي الحقيقة المطر شيء والرعد شيء آخر والبرق شيء ثالث.
وأما الثاني الذي قال: "إن المطر برعد وبرق" فإن كان يريد أن المطر نزل مصحوبا برعد وبرق فقد صدق، وأما إن أراد أن المطر حقيقته هي حقيقة الرعد والبرق وأن المطر والرعد والبرق شيء واحد فهنا قد أخطأ.
ففرق بين "المطر رعد وبرق" وبين "نزل المطر برعد وبرق" فالعبارة الأولى يفهم منها أن ماهية المطر هي بعينها ماهية الرعد والبرق فلا بد من تأويل اللفظ بأنه "المطر ينزل برعد وبرق" فعلى هذا يصح، وأما بلا تأويل فخطأ.
فكذلك قول الأشاعرة "إن كلام الله ليس بحرف وصوت" صحيح أي أن حقيقة كلام الله تختلف عن حقيقة الحروف والأصوات، كما قلنا: "المطر ليس برقا ولا رعدا"
وقول الحنابلة: "إن الله تكلم بحرف وصوت" أرادوا أن بعض الروايات نصت على أن كلام الله جاء معه حروف وأصوات وإن كانت هذه الحروف والأصوات ليست هي عين الكلام وحقيقته بل هي من العوارض.
فهذان القولان هما اللائقان بأهل السنة، والأشاعرة والحنابلة يتفقون هنا في أن حقيقة الكلام تختلف عن حقيقة الحروف والأصوات العارضة، ويتفقون على أن القديم هو الكلام الحقيقي، وأما الحروف والأصوات فحادثة، هذا محل اتفاق بين الأشاعرة والحنابلة، ومحل الاختلاف بينم هو أن الحنابلة يسوغون أن الكلام بحرف وصوت بمعنى أنه ورد أن الكلام جاء مصحوبا بحروف وأصوات، وأما الأشاعرة فجمهورهم لا سيما المتأخرون منهم لا يسوغون ذلك على أساس أن الروايات الواردة في ذلك ضعيفة أو غير صريحة، وذهب بعض الأشاعرة كالإمام ابن فورك إلى الموافقة على ما قالته الحنابلة من جواز أن يكون الكلام الأعظم ورد بحروف وأصوات أي مصحوبا بها كما دلت عليه بعض الروايات، ولا يكون في ذلك حرج لأن هذه المصاحبات حوادث ولا يكون إثباتها أو نفيها إلا كالكلام على سائر الحوادث والمخلوقات.
هذا مع ضرورة الانتباه إلى الفرق بين عبارة: "كلام الله حروف وأصوات" وبين "كلام الله بحروف وأصوات" فالعبارة الأولى ظاهرها مرفوض لأنها تجعل الكلام عين الحروف والأصوات، فلا بد من تأويلها لتكون كالعبارة الثانية القائلة بأن كلام الله بحروف وأصوات أن مصحوب بها تجيء معه، وهذه العبارة الثانية مساوية أيضا لعبارة : "تكلم الله بحرف وصوت".
فالفرق بين المذهبين هو في ثبوت الروايات أو صراحتها التي دلت على أن الكلام يجيء مصحوبا بالحروف والأصوات أم عدم ثبوتها، فالأشاعرة تشددوا في نقد هذه الروايات واستعملوا علم الجرح والتعديل فوجدوها غير قائمة ولا صالحة للحجة، والحنابلة أحسنوا الظن بها وسوغوا القول بها لا سيما أن المسألة ليست الآن في إثبات صفة قديمة برأسها وإنما في عوارض حادثة تصحب تلك الصفة القديمة.
أما الحشوية فهم مخالفون للفريقين من جهة أنهم يعتقدون أن الكلام الحقيقي القديم هو والحروف والأصوات شيء واحد وأن الأصوات والحروف هي بعينها الكلام القديم ولا فرق !! وبهذا لزمتهم لوازم شنيعة منها: إثبات الصفة القديمة بأخبار غير ثابتة، ومنها أنه لزمهم من خلال أخبارهم هذه أن هذه الصفة التي أثبتوها حادثة وأنها قائمة بذات الله وأنها تشبه الحوادث .. إلخ وتفصيل هذه المسألة له مكان آخر.
وعلى هذا الذي شرحناه وعلى رأي ابن فورك ومن وافقه من الأشاعرة الذين جوزوا ثبوت أخبار الصوت، فعلى قولهم يجوز أن يقال بأن الله تعالى : "تكلم أو يتكلم إذا شاء بحروف وأصوات" فالمشيئة راجعة للحروف والأصوات فقط وليس لأصل الكلام فانتبه، فيكون المعنى أن الله تعالى تكلم بكلامه القديم ولا يزال سبحانه متكلما فإذا شاء أسمعه من شاء مصحوبا بحروف وأصوات وإذا شاء لم يسمعه إياه كذلك، فهذه العبارة مع جوازها عند بعض الأشاعرة إلا أنه من الضروري الانتباه إلى أن الكلام عندهم غير الحروف والأصوات، وأن الكلام قديم قائم بالذات لم يزل، وأما الحروف والأصوات فعوارض حادثة متعلقة بالمشيئة، يجوز عليها ما يجوز على سائر الحوادث، والله تعالى أعلم.