منهج علماء الأشاعرة في العقيدة
قال السبكي: سمعت الشيخ الإمام (الوالد) رحمه الله يقول: ما تضمنه عقيدة الطحاوي هو ما يعتقده الاشعري لا يخالفه إلا في ثلاث مسائل ثم قال: قلت: أنا اعلم أن المالكية كلهم أشاعرة لا أستثني أحدا، والشافعية غالبهم أشاعرة لا أستثني إلا من لحق منهم بتجسيم أو اعتزال ممن لا يعبأ الله به، والحنفية أكثرهم أشاعرة، أعني يعتقدون عقد الأشعري، لا يخرج منهم إلا من لحق منهم بالمعتزلة، والحنابلة اكثر فضلاء متقدميهم أشاعرة، لم يخرج منهم عن عقيدة الأشعري إلا من لحق بأهل التجسيم، وهم في هذه الفرقة من الحنابلة أكثر من غيرهم. الطبقات 3/377
أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه
هو الإمام الجليل مجدد المائة الثالثة أبو الحسن على بن إسماعيل بن اسحاق ، ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري ، أحيا الله به مذهب أهل السنة ، وقمع به مذهب المعتزلة - بعد أن كان ظاهرا - وبقية مذاهب المبتدعة من شيعة وخوارج وقدرية ومرجئة وغيرهم ، وتوفي سنة 324 هـ .
قال الشيخ الإمام أبو الحسن القابسي المالكي رحمه الله " واعلموا ان أبا حسن الأشعري لم يأت من علم الكلام إلا ما أراد به إيضاح السنن والتثبت عليها ، إلى أن يقول القابسي : وما أبو الحسن إلا واحد من جملة القائمين في نصرة الحق ، ما سمعنا من أهل الإنصاف من يؤخره رتبة ذلك ، ولا من يؤثر عليه في عصره غيره ، ومن بعده من أهل الحق سلكوا سبيله ، إلى أن قال : لقد مات الأشعري يوم مات وأهل السنة باكون عليه وأهل البدع مستريحون منه .
وقال الإمام الحافظ البيهقي رحمه الله " .... إلى أن بلغت النوبة شيخنا أبا الحسن الأشعري رحمه الله فلم يحدث في دين الله حدثا ، ولم يأت فيه ببدعة ، بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدين ، فنصرها بزيادة شرح وتبيين ، وأن ما قالوا في بعضه لا يستقيم في الآراء ، فكان في بيانه ... نصرة أقاويل من مضى من الأئمة كأبي حنيفة وسفيان الثوري من أهل الكوفة والأوزاعي وغيره من أهل الشام ، ومن نحا نحوهم من أهل الحجاز وغيرها من سائر البلاد ، ومالك والشافعي من أهل الحرمين ، وكأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث ، والليث بن سعد وغيره ، وأبي عبدالله بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري إمامي أهل الأثر وحفاظ السنن التي عليها مدار الشرع رضي الله عنهم تعالى أجمعين .
والمقصود بإثبات الصفات إثبات لفظها الوارد في الكتاب والسنة ، وتفويض علمها إلى الله عز وجل ، وعدم التعرض لها بتفسير - وهو الذي ذكره الحافظ ابن كثير فيما أشرت إليه - وهو مذهب أبي الحسن رضي الله عنه .
قال الإمام المحدث ابن عساكر رحمه الله وهو يحكي عقيدة أبي الحسن الأشعري : كتب إليّ الشيخ أبو القاسم نصر بن نصر الواعظ ، يخبرني عن القاضي أبي المعالي ابن عبدالملك ، وذكر أبا الحسن الأشعري فقال : نضر الله وجهه ، وقدس روحه ، فإنه نظر في كتب المعتزلة والجهمية والرافضة ، وإنهم عطلوا وأبطلوا فقالوا : لا علم لله ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا بقاء ولا إرادة ! وقالت الحشوية والمجسمة والمكيفة المحددة : إن لله علما كالعلوم ، وقدره كالقدر ، وسمعا كالأسماع ، وبصرا كالأبصار !
وكذلك : قال جهم بن صفوان : العبد لا يقدر على إحداث شيء ، ولا على كسب شيء ! وقالت المعتزلة : هو قادرٌ على الإحداث والكسب معا ! فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما ، فقال : العبد لا يقدر على الإحداث ، ويقدر على الكسب ، ونفى قدرة لا كالقدرة ، وسمعا لا كالإسماع ، وبصرا لا كالأبصار .
وكذلك قالت الحشوية المشبهة : إن الله عز وجل يُرى مكيفا محدودا كسائر المرئيات ! وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية : إنه عز وجل لا يُرى بحال من الأحوال ! فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما ، فقال : إن لله عز وجل وهو غير محدود ولا مكيف ، فكذلك نراه وهو غير محدود ولا مكيف .
وكذلك : قالت النجارية : إن الباري عز وجل بكل مكان من غير حلول ولا جهة ! وقالت الحشوية والمجسمة : إنه سبحانه حالٌ في العرش ، وأن العرش مكان له ، وهو جالس عليه ! فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما ، فقال : كان ولا مكان ، فخلق العرش والكرسي ، ولم يحتج إلى مكان ، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه .
وقالت المعتزلة : له يدٌ ، يد قدرة ونعمة ، ووجه وجه وجود ، وقالت الحشوية : يده يد جارحة ، ووجهه وجه صورة ! فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما فقال : يده يد صفة ، ووجهه وجه صفة كالسمع والبصر .
وكذلك قالت المعتزلة : النزول نزول بعض آياته وملائكته ، والاستواء بمعنى الاستيلاء ، وقالت المشبهة والحشوية : النزول نزول ذاته ، بحركة وانتقال من مكان إلى مكان ، والاستواء جلوس على العرش ، وحلول فيه ! فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما فقال : النزول صفة من صفاته والاستواء . اهـ .
فإذن مذهب الأشعري مذهب وسط بين الإفراط والتفريط ، بين المعطلة والمشبهة ، أما بالنسبة لرجوع الإمام أبي الحسن وغيره إلى مذهب السلف ، فالمقصود به الرجوع إلى منهجهم في الاستدلال على مسائل العقيدة .
قال فضيلة الشيخ الأستاذ محمد صالح الغرسي حفظه الله :
الذي رجع عنه من رجع منهم ليس هو العقيدة ، وإنما الذي رجعوا عنه هو منهج الاستدلال من الغلو في الاعتماد على العقل ، والجري في ذلك على أساليب الفلاسفة ومناهجهم ، وهم أولا دعاهم إلى ذلك ضرورة رد مذاهب المعتزلة والفلاسفة ، وبيان زيف أصولهم الباطلة ، ورد الشبه التي أتت من قبلهم ليتم الإلزام لهم من باب ( من فمك أدينك ) ، ثم استقر هذا المنهج وصار علما يدرس ، وليس في أصول عقائد الأشاعرة والماتردية ما يخالف الكتاب والسنة حتى يرجعوا عنه . ولو كانوا قد رجعوا عن عقائد معينة لكانوا بينوها وحذروا منها ، فإن ذلك من آكد الواجبات ، ولم يثبت عن أحد منهم شيء من ذلك .
نعم قد رجع بعض العلماء عن التأويل في الصفات الخبرية إلى التفويض ، ومذهب التفويض وإن كان أولى وأسلم إلا أن التأويل بشروطه صحيح ، ثم إنه لا مناص من التأويل في بعض النصوص .
وهذا ما اضطر الإمام أحمد وبعض السلف إلى التأويل في بعضها .
قال العلامة عبد الملك بن عبد الرحمن السعدي البوعباس الحسني الهاشمي : الأشاعرة هم أتباع أبي الحسن الأشعري الذي كان له الفضل الأسبق في تنقية عقائد السنة والجماعة من الشوائب التي اعترتها من عقائد المعتزلة، وكان معظم أفذاذ الأمة وفطاحل علمائها من الأشعريين. الذين لم يبلغ من يطعن بهم كعبهم علماً وورعاً وتقوى، منهم إمام الحرمين والغزالي وابن حجر العسقلاني وفخر الدين الرازي، ولم يكن لهم ذنب إلا أنهم حرصوا على دفع شبه المُجَسِّمَة عن الذات الإلهية التي أثبتت له تعالى الجسم من خلال الآيات والأحاديث المتشابهة التي جاءت تحمل بظاهرها أن لله يداً وعيناً وذراعاً وإصبعاً ونحو ذلك، فقاموا بدحض شبهتهم باللجوء إلى المجاز؛ لأن المُشَبِّه لا يؤمن بنظرية التفويض فلا ترد إلا بنوع من التأويل، وعلى الرغم من ذلك فإنهم كانوا يرون أن التفويض وعدم الخوض في معرفة المراد منها هو الأسلم للعقيدة.
وكانت شبهة من يُكَفِّرهم أنه اتهمهم بأنهم ينفون بعض صفات الله تعالى، حيث ظنوا أن اليد والرجل والعين هي صفات له تعالى كالقدرة والإرادة، فكما أن له قدرة ليست كقدرتنا وعلماً ليس كعلمنا فله يد ليست كيدنا وعين ليست كعيننا.
ولا يخفى أن لفظ اليد والعين والإصبع هي من أسماء الذوات وليست من أسماء الصفات، فإذا أطلقنا اليد تبادر إلى الذهن اليد الجسدية ولكنّا إذا أطلقنا القدرة لا يتبادر إلى الذهن
قدرة جسدية فالقياس مع الفارق .
فإلقاء الملامة على الأشاعرة في التأويل أمام المُشَبِّهَة اعتداء عليهم وظلم لهم وإنكار لفضلهم على العقيدة فضلاً عن تكفيرهم، فإن من يكفرهم سيكون مشمولاً بقـوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : ( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه ) وقال عليه الصلاة والسلام (من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار -أي رجع- عليه ).
وما مَثَلُ مَن يُكَفِّرهم أو يُكَفِّر الإمام الأشعري إلا كمَثَلِ فَرَّاشٍ في مستشفى رأى طبيباً متخصصاً يحمل أعلى شهادة في الطب ويحمل أعلى الألقاب العلمية، وقد قرأ الفَرَّاش أو تعلم كيف يضمد الجرح وبعد تعلمه كيف يضمد الجرح أخذ يتطاول على الطبيب وينسب إليه الخطأ والجهل ويطعن به ويُشَكِّك الناس في معلوماته.
ثم إن الأشعري لم يُنكر هذه الصفات بل أَوَّلَها من الذوات التي تدل على الجسمية إلى الصفات، فالعين ذات والرعاية صفة، واليد ذات والنعمة أو السيطرة صفة وهكذا، إذن هو مثبت لها وليس نافياً.
وقد ذهب الشيخ ( القرضاوي ) إلى ترجيح مذهب السلف‚ ولم يكن هذا التأييد نابعا من هوى‚ ولا تماشيا مع الموجة التي تجعل بعضا من العلماء يحاولون عدم التعرض لها‚ وإنما كان الترجيح لأمور‚ أهمها:أولا: إن العقل الإنساني قاصر عن إدراك كنه صفات الله تعالى‚ كما هو قاصر عن إدراك ذاته‚ فمن المحال أن يدرك المخلوق كنه الخالق‚ ويحيط المحدود المحدث الفاني العاجز بالكائن المطلق الكامل الأزلي.
ثانيا: أننا لا نأمن -إذا خضنا لجة التأويل‚ وصرفنا النصوص بإطلاق عن ظواهرها إلى معان نراها نحن بعقولنا أليق بكمال الله سبحانه- أن ننسب إلى الله تعالى من الأوصاف ما لم يرده‚ وننفي عنه من الصفات ما لم يرد نفيه‚ وبذلك نكون من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون.
ثالثا: أن السلف يخشون من فتح باب التأويل: أن يكون ذريعة لدخول الزنادقة والملاحدة وأعداء الإسلام الذين يريدون أن يهدموه من الداخل‚ كالباطنية ومن دار في فلكهم من الفلاسفة‚ ومنحرفي المتصوفة‚ وغلاة الفرق‚ ويعطيهم سندا‚ في صرف آيات الكتاب عن مدلولاتها وظواهرها.
رابعا: أن مذهب السلف أسلم بالإجماع‚ لأن فيه إثبات ما أثبته الله تعالى‚ ونفي ما نفاه في كتابه وعلى لسان رسوله‚ مع الجزم بنفي التكييف والتشبيه عن الله تعالى (ليس كمثله شي.
خامسا:وهذا الوجه مبني على ما سبقه‚ من أن مذهب السلف في التسليم -حسب ما ذكرناه- مسلّم به ومتفق عليه من الجميع‚ والأولى في قضايا العقيدة وأصول الدين: أن يعتصم الإنسان طالب النجاة بالمتفق عليه‚ فهو أحوط له‚ وأحزم لأمره‚ وأصون لدينه.
سادسا: ولعل مما يؤيد ما قلناه في ترجيح مذهب السلف: أننا وجدنا عددا من كبار الذين خاضوا لجج التأويل‚ ونصروا مذهب الخلف‚ عادوا في أواخر أعمارهم إلى محجة السلف‚ وأيدوا وجهتهم.
كما أن الشيخ ( القرضاوي ) في مسألة آيات الصفات يرى ألا تجمع في مكان واحد كما يفعل البعض‚ فيتوهم الله شخصا مكونا من أعضاء يقول الشيخ ـ حفظه الله ـ: وتلك الحقيقة: أن تعرض هذه الصفات كما وردت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله‚ أعني: أن تذكر مفرقة لا مجموعة‚ فكل مسلم يؤمن بها ويثبتها لله تعالى كما جاءت.فليس مما يوافق الكتاب والسنة جمعها في نسق واحد يوهم تصور ما لا يليق بكمال الله تعالى‚كما يقول بعضهم: يجب أن تؤمن بأن لله تعالى وجها‚ وأعينا‚ ويدين‚ وأصابع‚ وساقا ‚‚‚ إلخ ‚ فإن سياقها مجتمعة بهذه الصورة قد يوهم بأن الله تعالى وتقدس كل مركب من أجزاء‚ أو جسم مكون من أعضاء.ولم يعرضها القرآن الكريم ولا الحديث الشريف بهذه الصورة‚ولم يشترط الرسول لدخول أحد في الإسلام أن يؤمن بالله تعالى بهذا التفصيل المذكور.ولم يرد أن الصحابة وتابعيهم بإحسان كانوا يعلمون الناس العقيدة بجمع هذه الصفات‚ كما تجمع في بعض الكتب المؤلفة في ذلك.
موقف الشيخ ( القرضاوي ) من العوام
ولما كانت هذه القضية من القضايا الشائكة‚ والتي ربما يستعصي فهمها على عوام الناس‚ الذين لا يستطيعون الغوص في لجج العلم‚ فقد اختار الشيخ موقفا خاصا للعوام ـ وهو موقف ابن الجوزي‚ وإمام الحرمين‚ والغزالي ـ قال فيه:والذي أوثره وأرجحه هنا أن نعتصم بأمور أربعة:
1- أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه‚ وعلى لسان رسوله‚ فنصفه بما وصف به نفسه‚ وما تمدح لنا به‚ وأراد أن يعرفنا به من أوصافه أو أفعاله‚ ولا نخاف من إطلاقها مادام القرآن قد أطلقها‚ والرسول قد ذكرها‚ فلسنا أغير على ربنا منه عز وجل‚ ولا أغير عليه من رسوله صلى الله عليه وسلم‚ ولا أحرص على التقديس والتنزيه لله جل شأنه منهما.
2- ألا نزيد من عند أنفسنا على ما وصف به نفسه‚ أو نغير عبارة القرآن أو السنة بعبارة من عندنا‚ فهذا قد يدخلنا في مأزِق‚ أو يوقعنا في مزلق‚ تزل به أقدامنا‚ وإنما نلتزم العبارات الشرعية كما وردت.
3- ألا نجمع هذه الصفات أو الأفعال الموهمة لمشابهة الخلق في نسق واحد‚ أو في سياق واحد‚ بل نوردها كما أوردها القرآن‚ وكما أوردتها السنة في مناسباتها‚ وفي سياقاتها المختلفة.
4- أن نؤكد أبدا ما دلت عليه النصوص القاطعة‚ وأجمعت عليه الأمة بكل طوائفها ومدارسها: سلفيين وخلفيين‚ من تنزيهه -جل ثناؤه- عن مشابهة شيء من خلقه بحال من الأحوال‚ وكل ما وصف الله تعالى به نفسه‚ في كتابه أو على لسان رسوله‚ مما يشترك فيه مع المخلوقين‚ فهو ثابت له سبحانه بما يليق بكماله وجلاله وعظمته‚ ويتنزه عن مشابهة المخلوقين فيه.
رأي الشيخ ( القرضاوي ) في الخلاف القائم بين أتباع السلف وأتباع الخلف:
وقد أغضب الشيخ موقف المثبتين من المؤولين‚ وموقف المؤولين من المثبتين‚ لأنه يرى أن الخلاف ليس خلافا كبيرا كما يتوهم البعض‚ وأنه لا يوجب تكفير أحد الفريقين للآخر‚ أو حتى تأثيمه وتضليله‚ أو تبديعه وتفسيقه‚ لذا قال الشيخ:أعتقد أن الخلاف بين المنهجين أو المذهبين لا يوجب تكفير أحدهما للآخر‚ بمعنى الحكم عليه أنه كافر كفرا أكبر يخرج من ملة الإسلام !! فهذا ما لا ينشرح له صدر مسلم ولا يقبله عقل عالم‚ بل أرى أن الخلاف في هذه القضية لا يحتمل تأثيما ولا تفسيقا ولا تبديعا‚ إنما أقصى ما فيه: أن يكون خلافا بين مصيب ومخطئ‚ أو مصيب وأصوب منه.وكيف يجرؤ عالم متمكن: أن يفسق أو يؤثم أو يبدع أساطين علماء الأمة‚ الذين حملوا شريعتها‚ وذادوا عن عقيدتها‚ وتصدوا لخصوم دعوتها‚ وعاشوا أعمارهم دعاة ومصلحين‚ وعلماء عاملين‚ أمثال الباقلاني‚ والاسفرايني‚ والماتريدي‚ والغزالي‚ والرازي‚ وابن عبد السلام‚ وابن دقيق العبد‚ والرافعي‚ والنووي‚ وابن الهمام‚ والزركشي‚ والعراقي‚ وابن حجر‚ والسيوطي‚ وغيرهم من الفحول المتبحرين في علوم العقيدة والشريعة ؟!!وهم ـ حين أولوا ما أولوا ـ لم يخرجوا عن سنن العربية في مخاطباتها‚ ولهم سلف من الصحابة الذين روي عنهم التأويل كما روي عنهم التفويض ‚ أو الإثبات ‚ مثل ما روي عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما.كما أنهم لم يقصدوا بذلك إلا أن يفهموا الناس معاني كتاب الله ‚ وأن يدافعوا عنه أمام المحرِّفين والمبطلين.وكما عاب الشيخ موقف السلفين ألقى كذلك باللوم على المتطاولين من المؤولين فقال: وإذا كنا نعيب على بعض السلفيين غلوهم في تكفير بعض المسلمين من المؤولين وغيرهم‚ أو تفسيقهم وتأثيمهم.فإننا نعيب كذلك على بعض مخالفيهم الغلو في اتهام هؤلاء السلفيين بل أئمتهم وشيوخهم- بالضلال والمروق‚ وتقويلهم ما لم يقولوه في دين الله .
ولكني أطالب إخواننا السلفيين هنا أن يكفوا عن تكفير من يخالفهم فيما ذهبوا إليه من الإثبات المطلق ‚ وألا يعتبروا التأويل إذا أيدته القرائن ضلالا ولا انحرافا‚ بله أن يكون كفرا ومروقا من الدين.ويقول في كتاب آخر: ومع ترجيحي رأي السلف في ترك التأويل في أمور الألوهية والغيب‚ لا أضلل المؤولين من كبار علماء الأمة‚ لا أكفرهم ولا أفسقهم‚ لأنهم قصدوا بتأويلهم الدفاع عن أصول الدين في مواجهة أعدائه‚ ولأن تأويلهم في إطار ما تحمله لغة العرب.إختيارنا لرأى الدكتور يوسف القرضاوى لهذا المنهج للأسباب الآتية :
رأي الشيخ ( القرضاوي ) في آيات الصفات وأحاديثها
وللعلم فإن الشيخ في مسألة آيات الصفات يرى ترجيح مذهب السلف على رأي الخلف‚ وهو في هذا موافق لشيخه البنا رحمه الله‚ يقول القرضاوي: وأنا أرجح رأي السلف ـ وهو ترك الخوض في لجج التأويل‚ مع تأكيد التنزيه ـ فيما يتعلق بشؤون الألوهية وعوالم الغيب والآخرة‚ فهو المنهج الأسلم‚ إلا ما أوجبته ضرورة الشرع أو العقل أو الحس‚ في إطار ما تحتمه الألفاظ‚هذا كلام الشيخ الذي ردده في كثير من كتبه‚ ولكنه أفصح عن أمر آخر أكثر إيضاحا لموقفه من قضية الصفات في كتابه: «فصول في العقيدة بين السلف والخلف» (تحت الطبع) وسأنقل هنا موقف الشيخ ‚ يقول الشيخ حفظه الله:أود أن أبوح بسر للقارئ الكريم‚ فقد كنت كوّنت رأيا منذ سنوات في موضوعنا هذا‚ وهو ما يتعلق بما سموه : )آيات الصفات( أو )أحاديث الصفات(.ويتلخص هذا الرأي أو هذا الموقف في ترجيح المذهب المشهور عن السلف رضي الله عنهم‚ وهو: السكوت وعدم الخوض أو التفويض.ولكني بعد أن عشت في الموضوع منذ سنوات‚ ثم عكفت عليه في السنتين الأخيرتين‚ وتوسعت في القراءة والدراسة والبحث والمقارنة بين أقوال المدارس المختلفة من المتكلمين والأثريين‚ أو السلف والخلف‚ أو الحنابلة وغيرهم‚من المثبتين والمفوضين والمؤولين‚ من مبالغين ومعتدلين في كل فريق: اتضح لي بعد ذلك أمور لم تكن واضحة عندي من قبل بالقدر الكافي‚ ورأيت أن من التبسيط المخل: أن نسكت ونغلق أفواهنا عن الكلام في الموضوع‚ ونحسب أن القضية قد حسمت بذلك.فالحق أن النصوص الواردة في الموضوع ليست كلها في مستوى واحد‚ لا من حيث ثبوتها‚ ولا من حيث دلالتها‚ كما أن المروي عن السلف في هذا الأمر ليس كله ذا مفهوم واحد أو نسق واحد.فما خلاصة الموقف من هذه القضية التي طال فيها الجدال‚ واستحال إلى صراع ونزال‚ أو حراب وقتال؟
أولا: النصوص التي تضيف إلى الله تعالى صفات هي في البشر انفعالات نفسية (فعلية) ‚ مثل: الرحمة والرضا والغضب‚ والمحبة والكراهية‚ والفرح والغيرة‚ والعجب ونحوها‚ وقد ثبتت بآيات القرآن العزيز‚ أو بالسنة الصحيحة: نثبت هذه الصفات لله سبحانه وتعالى‚ كما أثبتها لنفسه‚ في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم‚ ونحن مطمئنون كل الاطمئنان‚ ولا نلتمس لها تأويلا‚ إذ لا حاجة إليه‚ ولا نتوقف فيها‚ لأنها بيّنة واضحة المعنى‚ وهذا هو مذهب السلف فيها.فلا داعي لأن نقول: المراد بالرضا: إرادة الإنعام‚ أو الإنعام نفسه‚ أو بالغضب: إرادة الانتقام‚أو الانتقام ذاته‚ أو بالمحبة: إرادة الثواب‚ أو الثواب نفسه‚ لنردّ كل هذه الصفات إلى صفة الإرادة أو صفة القدرة‚ كما يفعل كثير من المتكلمين.
ثانيا: النصوص التي تثبت الفوقية والعلو لله تعالى‚ نثبتها كما أثبتها الله تعالى لنفسه‚ لما جاءت به النصوص الغزيرة الوفيرة في القرآن والسنة‚ مثل قوله تعالى: «أأمنتم من في السماء» «بل رفعه الله إليه» والأحاديث الكثيرة التي ذكرت أن الله في السماء‚ أو فوق سبع سماوات: مثل: «يرحمكم من في السماء».كل هذه النصوص نثبت ما دلت عليه من وصف لله تعالى‚ ولكنا نفسر هذا الإثبات بما فسره به المحققون من علماء المنهج السلفي‚ لا بما يفهمه السطحيون من الحشوية الظاهرية‚ وبعض غلاة الحنابلة.
ثالثا: النصوص التي يوحي ظاهرها بإفادة التجسيم والتركيب‚ لله عز وجل مثل النصوص التي تثبت لله تعالى: الوجه واليد واليدين والعين والعينين والقدم والرجل والساق والأصابع والأنامل والساعد والذراع و الحقو والجنب‚ ونحوها‚ مما هو في المخلوق أعضاء وجوارح في الجسم‚ فهذه النصوص يرجح تأويلها إذا كان التأويل قريبا غير بعيد‚ مقبولا غير متكلف‚ جاريا على ما يقتضيه لسان العرب وخطابهم‚ وهذا التأويل ليس واجبا‚ ولكنه أحق وأولى من الإثبات الذي قد يوهم إثبات المحال لله تعالى‚ ومن السكوت والتوقف‚ ومن التأويل البعيد.وهذا التأويل ليس لازما‚ فمن لم يسترح إليه يستطيع أن يفوض في هذه النصوص‚ كما فوض كثيرون من السلف والخلف أو أن يثبت بلا كيف ‚ كما يرى الإمام ابن تيمية ( مع التحفظ على منهج الإمام بن تيمية فى الأسماء والصفات مع إحترامنا له كإمام كبير ) ومدرسته: لزوم الإثبات بلا تكييف ولا تعطيل‚ ولا تشبيه ولا تمثيل.وموقفنا هذا الذي اخترناه من جواز التأويل إن كان قريبا مقبولا‚ كما قال ابن عبد السلام وابن دقيق العيد‚ أو اختيار مذهب السلف إن كان التأويل غير قريب ولا مستساغ‚ سواء فسرنا مذهب السلف بالسكوت والتفويض أم فسرناه بالإثبات بلا تكييف ( أي إثبات المعلوم وتفويض الكيف ).
قال الشاطبي ( من أراد تفهم القرآن فمن جهة لسان العرب يفهم ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة). وقال ابن عباس رضي الله عنه : (الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فلتمسنا ذلك). وفي رواية قال: (إذا سألتموني عن غريب القرآن فلتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب . قال عمر رضي الله عنه: ( أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم )
هذا الموقف قد اختاره الأئمة المعتدلون المرضيون عند جمهور الأمة‚ مثل الإمام أبي سليمان الخطابي‚ والإمام أبي بكر البيهقي‚ والإمام أبي زكريا النووي‚ والإمام ابن كثير‚ والحافظ بن حجر‚ وغيرهم.
والحمد لله رب العالمين