الرد على فضيلة شيخ الأزهر في مسألة تقديم العقل على النقل
(لا .. يا فضيلة شيخ الأزهر.. بل النقل حاكم وقاض ومُقدَّم على العقل)
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم رسل الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.. وبعد:
فقد صُدم المتمسكون بأهداب الكتاب والسنة من أهل الإسلام، بما يعارض إسلامهم ويناقض ما جبلوا عليه من ثوابتٍ علِموها وتعلموها، تقضي بعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، واستحالة تعارض صريح العقل مع صحيح النقل، وعلى التنزُّلِ والافتراض: فبعدم تقديم العقل على النص بتأويل الأخير ومن ثم إهماله وعدم إعماله.
صدم الجميع بما يعارض هذه الثوابت فيما بات يعرف بـ (وثيقة الحريات)، حيث راح فضيلة شيخ الأزهر يشير في هذه الوثيقة – التي حررت بتاريخ 14 من صفر 1433 الموافق 8/ 1/ 2012– إلى سماحة الإسلام وسعة صدره في استيعاب الآخرين ومواكبة مستجدات العصر، ويشيد فيما يشيد بعلمائنا القدامى، مبرراً ذلك بأنهم قد أعلوا "من شأن العقل.. وتركوا لنا قاعدتهم الذهبية التي تقرر أنه: (إذا تعارض العقل والنقل، قدِّم العقل وأُوِّل النقل) تغليباً للمصلحة المعتبرة وإعمالاً لمقاصد الشريعة".. وهذا أمر فيه مغالطة، كما أنه من الخطورة بمكان.. ويُرَدُّ عليه من عدة أوجه:
1- أن العقل السليم لا يمكن بحال أن يصطدم أو يتعارض مع ما جاء به النقل الصحيح، بل إن العقل يشهد له ويؤيده لسبب بسيط ومنطقي يتمثل في: أن الذي خلق العقل وهو الله تعالى، هو الذي أرسل إليه النقل وجعله صالحاً له في كل زمان ومكان.. ولأن الإنسان صنعة خالقه، كان هو سبحانه أعلم بصنعته وبما يصلحه في كل زمان ومكان، فإذا وَضع رب العباد نظاماً فببالغ حكمته وعلمه ولصلاح صنعته (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.. الملك/ 14)، وإذا ألزم عباده بمنهجه وشرعته، كان من المحال أن يضلوا أو يشقوا أو يعيشوا تحت مظلته معيشة ضنكاً، وإنما الأمر كما قال جلت حكمته: (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً. ونحشره يوم القيامة أعمى.. طه/ 123، 124).. ومعلوم بالضرورة أن أولى من يضع نظام التشغيل للمصنوعات – ولله المثل الأعلى – هو صانعها.
ومن هنا ساغ لشيخ الإسلام لأن يضع قاعدته الذهبية بحق والتي فيها يقول: "كل ما يدل عليه الكتاب والسنة، فإنه موافق لصريح المعقول، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن كثيراً من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول r ومراده به، كان عارفاً بالأدلة الشرعية، وليس من المعقول ما يخالف المنقول"[مجموع الفتاوى 12/ 81].. ويقول: "من قال بموجب نصوص القرآن والسنة، أمكنه أن يناظر الفلاسفة مناظرة عقلية يقطعهم بها ويتبين له أن العقل الصريح مطابق للسمع الصحيح"[السابق 6/ 525 وينظر الحموية 18 ومختصر الصواعق ص 87].
وهذا عينه ما سلكه إمام المذهب أبو الحسن الأشعري عندما ترك سبيل المعتزلة والمتكلمة من الخلف، ونهج نهج سلف الأمة وعلى رأسهم الإمام المبجل أحمد بن حنبل، وكان منه ما كان من تأليفه كتب: (الإبانة) و(مقالات الإسلاميين) و(رسالة إلى أهل الثغر)، تلك الكتب التي دحض من خلالها بالحجة والبرهان وأدلة العقل قبل النقل، كل طريق يخالف طريق النبي r وصحابته وتابعيهم بإحسان.
2-: أن لو حدث تعارض بين العقل والنقل، فإن ذلك مرجعه لأحد سببين لا ثالث لهما: إما أن النقل لم يثبت فيَنسب مدعي التعارض إلى دين الله ما ليس منه، كالذين يتمسكون بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، وينقلونها للناس دون تمحيص، وإما أن العقل لم يفهم النقل ولم يدرك مراد الله ولا خطاب رسوله r منه على النحو الصحيح، كما شكك بعض المستشرقين في حديث الذبابة وحديث ولوغ الكلب في الإناء وأحاديث الشفاعة وغيرها، قال شيخ الإسلام: "وما أثبته السمع الصحيح لم ينفه عقل صريح، وحينئذ فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح، وإنما يَظن تعارضَهما من غلط في مدلولهما أو مدلول أحدهما"[درء تعارض العقل والنقل 7/ 39].
3-: أن من رسخ القاعدة الصحيحة القاضية بـ (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)، إنما بناها على أصل وأساس صحيحين، وهو وجوب إعمال العقل والفكر فيما يؤدي إلى إظهار الدين والعمل بمقتضى النقل، والرد على المخالفين للكتاب والسنة.. وكان يمكن قبول كلام شيوخ الأشاعرة عندما عوَّلوا كثيراً على طريق العقل باعتبار أن الاقتصار على الدلائل النقلية لأهم أصول العقيدة الإسلامية مثل إثبات وجوده تعالى وصفاته، مستلزم للدور المحال، لأن ثبوت النقل في هذه الأصول متوقف على ثبوت الوحي، وما كان ثبوت الوحي موقوفاً على ثبوته، لا يصح الاستدلال عليه بالنقل، لأن ذلك موجب لتقدم الشيء على نفسه وهو الدور المحال، فكان العقل بهذا الاعتبار أصلاً للنقل وشاهداً على صدقه.. وإهماله – إذا كانت دلالته قطعية – ورد مقتضاه، موجب لانهيار أصل النقل وللطعن في شاهده الذي لم يثبت إلا به، فيكون هذا إبطالاً للنقل.
كان يمكن لهذه القاعدة – مع ما عليها من مآخذ – أن تُقبل، لولا أولئك الذين أرادوا من المتكلمين أن يجعلوا من النقل مطية للعقل، لدرجةٍ جرأت البعض منهم على أن يوجَّه آيات القرآن وأدلة السنة في غير مسارها الذي أنزلت من أجله أو بعيداً عن سياقاتها المحمولة عليها على وجهها الصحيح، كما فعل أصحاب المدرسة العقلية عندما وضعوا أنسقة فكرية في أذهانهم – كفروض يعملون على إثباتها – وغايتهم من ذلك: أن يجدوا بين الآيات والأحاديث ما يؤيد رأيهم ويدعم مذهبهم ولو بتعسف، فإن وجدوا في الأدلة ما يخالف مذهبهم، قاموا بتأويل الآيات والأحاديث تأويلاً لا تحتمله النصوص ولا يقوم على دليل واضح، أو قاموا برد الأحاديث الثابتة بالسند الصحيح بزعم أنها ظنية من رواية الآحاد التي لا تفيد بزعمهم أيضاً، اليقين في أمور الاعتقاد.
وهذا ما يجري الآن للأسف لضعف الإيمان، وما ارتضاه شيخ الأزهر وما يُعد بحق – عياذاً بالله من ذلك – خروجاً على النصوص الشرعية ورداً لها، وتقديماً بين يديها وعدم تسليم لها، وهو ما نهى الله عنه في مثل قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.. الحجرات/ 1)، ووجه إليه في قوله: (إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا على الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا.. النور/ 51)، وقوله: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاًَ مبيناً.. الأحزاب/ 36).. إلى آخر ذلك.
4-: وللتعرف على مؤسس مدرسة معارضة العقل وتقديمه حينذاك على النقل – حتى لا ينخدع الناس ببريق كلامه أو بكلام من أوحى له بذلك من سائر البشر – قرر أهل العلم أن تقديم العقل على النقل هو سبيل (إبليس)، فهو أول من عارض النقل بالعقل.. وذلك أن الله عندما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين هما، قوله: (أنا خير منه)، وقوله: (خلقتني من نار وخلقته من طين)، وكانت النتيجة لديه وعلى مذهبه: (أنّ خير المخلوقَيْن لا يسجد لمن هو دونه).. وأنت إذا تأملت مادة هذا القياس وصورته، رأيته أقوى من قياسات من تبعه ممن عارضوا بها الوحي، والكل باطل.. وكان بشار بن برد الشاعر الأعمى على هذا المذهب، ولهذا قال في قصيدته:
الأرض مظلمة سوداء معتمة * والنار معبودة مذ كانت النار
ولما علم الشيخ أبو مرة – إبليس – أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل، وعلم أن لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع وإبطاله، من معارضته بالمعقول، أوحى إلى تلامذته وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يعارضون بها الوحي، وأوهم أصحابه أنها قواطع عقلية، وقال: (إن قدمتم النقل عليها فسدت عقولكم).. وغاب عن الشيخ أبي مرة ما غاب عن كثيرين، من أن القياس إذا صادم النص وقابله، كان قياساً باطلاً ويسمى قياساً إبليسياً، لأنه يتضمن معارضة الحق بالباطل، ولهذا كانت عقوبته أن أفسد الله عليه عقله ودنياه وآخرته.. وبمثل جرمه يجرم أتباعه الآن وإلى يوم القيامة ويكون مصيرهم من مصيره.. وصدق الله القائل: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون..الأنعام/ 121)، والقائل: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.. الأنعام/ 112)[ينظر مختصر الصواعق ص 151: 153].. وفي هذا – من دون شك – ما يحد من سلطان العقل بحيث لا يكون النقل مطية له.
يقول محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه الملل والنحل: "اعلم أن أول شبهة وقعت في الخليقة: شبهة إبليس، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص.. وتشعبت من هذه الشبهة سبع شبهات وسرت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعة وضلالة، وتلك الشبهات مسطورة في شرح الأناجيل الأربعة.. ومذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرات بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع منه[ينظر السابق ص 218 والملل والنحل ص11].. ما يعني أن هذا المبدأ مرفوض من أساسه لدى سائر الملل وأهل العلم، لكونه منافياً للفطرة وللإسلام.
5- : وقد ورث هذه الطريقة عن إبليس – لعنه الله – الجعد بن درهم، فهو أول من عارض الوحي بالرأي، ولما اشتهر أمره في المسلمين طلبه خالد القسري وكان أميراً على العراق، حتى ظفر به وذبحه يوم الأضحى في أصل المنبر، ومع ذلك فقد خلفه فيها جهم بن صفوان وأتباعه والمعتزلة ومن تأثر بهم من المتكلمة ومتأخري الأشاعرة، فهذا ميراثهم عن إبليس وهو سلفهم إليه.. ثم انطفأت تلك البدعة حتى عصر القرامطة والباطنية الذين دعوا أقوامهم إلى العقل المجرد، وأن أمور الرسل تعارض المعقول، فجرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى وكسروا عسكر الخليفة وقتلوا الحجيج واقتلعوا الحجر الأسود من مكانه وقويت شوكتهم.. وأصل طريقتهم: أن الذي أخبرت به الرسل قد عارضه العقل، وإذا تعارض العقل مع النقل قدم العقل.. وهذا كله يدعونا لنبذ طريقتهم هذه وعدم مجاراتهم.
على أن أرباب هذه الطريقة ومن تأثر بهم من الفلاسفة وفرق الشيعة والخوارج والمعتزلة وطوائف أهل الكلام – وهذا مما تجدر الإشارة إليه – مضطربون في العقل الذي يعارض النقل أشد الاضطراب، وكل منهم يدعي أن صريح العقل معه وأن مخالفه قد خرج عن صريح العقل، وقد ساعدهم على هذا أن المعقولات ليس لها ضابط ولا هي محصورة في نوع معين.. ونحن نصدق جميعهم ونبطل عقل كل فرقهم بعقل الأخرى، ثم نقول للجميع ما قاله ابن القيم: بعقل من منكم يوزن كلام الله ورسوله r فما وافقه قبل وأقر عليه ومن خالفه أُوِّل أو فُوِّض إلى عقولكم؟: أعقل أرسطو وشيعته أم عقل أفلاطون أم ابن سينا أم الجعد أم جهم أم النظام أم العلاف أم الجُبَّائي أم بشر المريسي أم فخر الدين الرازي وقد هداه الله ورجع عما كان عليه؟[ينظر مختصر الصواعق ص 170: 172، 96].
6-: أن غاية ما جنح إليه الإمام الرازي ومن حجل بقيده من الخلف، في فرضية التعارض التي ما انفك يذكرها له ولهم فضيلة شيخ الأزهر دون أن يسجل رجوعه ورجوعهم عنها إلى نهج السلف، قولهم: (إنا لو قدمنا النقل – في حال التعارض – على العقل، لبطل العقل وهو أصل النقل، وللزم بالتالي بطلان العقل والنقل، فتعين تقديم العقل) [ينظر أساس التقديس للرازي ص 193، 194].
وجوابه: أن قولهم: (إن قدمنا النقل لزم الطعن في أصله)، ممنوع.. ذلك أنه إن أرادوا بذلك: جعل العقل أصل في ثبوت النقل في نفس الأمر، فهذا لا يقول به عاقل، لأن النقل ثابت في نفس الأمر وليس موقوفاً على علمنا به، فعدم علمنا بالحقائق لا ينافي ثبوتها في نفس الأمر، فما أخبر به الصادق المصدوق r هو ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أم لم نعلمه، وسواء صدقه الناس أو لم يصدقوه، كما أن رسول الله حقاً وإن كذبه بعقله من كذبه، وكما أن وجود الله وثبوت أسمائه وصفاته حق سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، فلا يتوقف ذلك على وجودنا فضلاً عن علومنا وعقولنا، لأن الشرع المنزل من عند الله مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه، فإذا علم العقل ذلك حصل له كمال لم يكن قبل ذلك، وإذا فقده كان ناقصاً جاهلاً.
وإن أرادوا به: أن العقل أصل في معرفتنا بالنقل ودليل على صحته، قيل لهم: ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلاً للنقل ودليلاً على صحته، فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصى، والعلم بصحة السمع يتوقف على ما به يُعلم صدق الرسول من العقليات، وليس كل العلوم العقلية يُعلم بها صدقه r، بل إن ذلك يعلم بالبراهين والآيات الدالة على صدقه.
فعُلم بذلك أن جميع المعقولات ليست أصلاً للنقل، لا بمعنى توقف العلم بالنقل، عليها.. ولا بمعنى توقف ثبوته في نفس الأمر عليها، وأنه لا يلزم من تقديم السمع على المعقول في الجملة، القدح في أصله[ينظر مختصر الصواعق ص 98: 100ودرء التعارض 1/ 88].
7:- وجوابه أيضاً: أن التقسيم الذي جنح إليه الرازي وبنى هذه القاعدة على أساسه، غير صحيح ولا منطقي بالمرة، ومن ثم فإنه يحكم على الأصل والتقسيم بأنهما باطلان، ذلك أنه قال – وقد تبنى قوله فضيلة شيخ الأزهر –: إنه عند تعارض النقل والعقل، إما أن يقال بالجمع بينهما، أو ببطلانهما، أو بتقديم النقل، أو بتقديم العقل.. ثم ما كان منه إلا أنه اختار الأخير منها للعلة السابق ذكرها وهي: (أنا لو قدمنا النقل – في حال التعارض – على العقل، لبطل العقل وهو أصل النقل، وللزم بالتالي بطلان العقل والنقل، فتعين تقديم العقل)[ينظر أساس التقديس للرازي ص 193، 194].. وهذا "التقسيم – فضلاً عن أنه جعل من العقل طاغوتاً على حد تسمية ابن القيم وقيض لكسره باباً في صواعقه استغرق منه قرابة المائتي صفحة – هو باطل من أصله.. والتقسيم الصحيح أن يقال: (إذا تعارض دليلان سمعيان أو عقليان أو سمعي وعقلي، فإما أن يكونا قطعيين وإما أن يكونا ظنيين وإما أن يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً، فأما القطعيين فلا يمكن تعارضهما وإلا لزم الجمع بين النقيضين، وإن كان أحدهما قطعياً والآخر ظنياً تعين تقديم القطعي سواء كان عقلياً أو سمعياً، وإن كانا ظنيين صرنا إلى الترجيح ووجب تقديم الراجح منهما)، لا لكون المتعين أو الراجح فيما إذا كان عقلياً لأنه عقلي، وإنما لكونه قطعياً أو مترجحاً.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا التقسيم وإن كان بموجب القسمة العقلية هو المترجح المتفق على مضمونه بين العقلاء، فإنه فضلاً عن أن جانب الترجيح أو القطع العقليين فيه يصبان في دائرة المباحات فقط على ما سيأتي بيانه ولا يتأتى في أصل الشريعة ولا في نفس الأمر، فإنه يكون بحسب الظاهر بسبب الخطأ في فهم المراد أو عدم معرفة السابق من الدليلين أو بسبب خطأ في مقدمات القياس.. وعند التأمل يتبين أنه لا تعارض، ذلك أن منشأ الاختلاف في الأحكام مرجعه إلى اختلاف نظر المجتهدين عند النظر[ينظر كشف الأسرار 3/ 796 والموافقات 4/ 63].
كما أن هذا التقسيم هو الذي "يعلم منه أن إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقاً خطأ، وأن جعل جهة الترجيح كونه عقلياً فقط خطأ، وأن جعل سبب التأخير والاطراد كونه نقلياً خطأ"[الصواعق ص 98 وينظر ما قبلها وما بعدها].. وهذا ما جنح إليه الرازي وظهر منه جلياً في مسألة نفي صفات الله الخبرية والفعلية والقصد إلى تأويلها بعد تعطيلها، خلافاً لأئمة السلف وخلافاً لما شغب به بعض الجهلة في خطوة منه لبيان أن لا فرق بينهما.. ومثاله: ترجيح طهارة سؤر سباع الطير لأن منقارها عَظْمٌ طاهر، وملاقاة الطاهر للطاهر لا توجب النجاسة، فكان أثر هذا أقوى من أثر القياس على سؤر سباع البهائم على ما هو مبين في كتب الحنفية.
8:- أن تقديم العقل على النقل يتضمن القدح في العقل والنقل معاً وليس العكس، لأن العقل – فضلاً عما سبق ذكره – قد صَدَّق الشرع، ومن ضرورة تصديقه له قبول خبره.. وأيضاً لأن العقل قد شهد الشرع والوحي بأن النقل أعلم منه، وأن نسبة علوم العقل ومعارفه إلى الوحي، أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل، فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحاً في شهادته، وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله، ذلك أن الشرع فضلاً عن أنه مأخوذ عن الله بواسطة رسوليه: الملك والبشر، هو كذلك مؤيدٌ بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارة، وعلى ما يستحسنه تارة وعلى ما يجوزه تارة ويضعف عن دركه تارة، فلا سبيل إلى الإحاطة به ولا مناص من التسليم له والانقياد لحكمه والإذعان والقبول به.
وهنا يسقط (لمَ) ويبطل (كيف؟) وتزول (هلا) وتذهب (لو وليت) في الريح.. ويقع ما أخبر الله به في قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.. المائدة/ 3)، حيث أخبر أنه قد تمم الدين لنبيه وكمَّله به، ولم يحوجه هو ولا أمته من بعده في تغليب المصالح المعتبرة إلى عقل ولا نقل سواه.. ويكون ما أمر الله به عباده في قوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.. النساء/ 65)، حيث أقسم بأنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدرونا لحكمه فلا يبقى فيها حرج، ونسلم لحكمه تسليماً فلا نعارضه بعقل ولا برأي.. وفي قوله: (فما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله.. الشورى/ 10)، حيث أخبر أن حكم جميع ما تنازعنا فيه مردود إلى الله وحده، فهو الحاكم فيه على لسان رسوله، فلو قدم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بكتابه.. وفي قوله: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون.. الأعراف/ 3)، حيث أمر باتباع الوحي المنزل وحده ونهى عما خالفه.
كما أخبر سبحانه – في غير ما ذكرنا من الآيات – أن كتابه هدى وشفاء وبينة ورحمة ونور ومفصل وبرهان وحجة وبيان، فلو كان في العقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن، لم يكن فيه شيء من ذلك بل كانت هذه الصفات للعقل دونه [ينظر السابق 102: 106].
9-: لقد تراجع فخر الدين الرازي فيمن تراجعوا من أئمة الاجتهاد والتشريع – الذين ورد ذكرهم في وثيقة شيخ الأزهر للحريات – عن تلك القاعدة الكلامية القائلة بأنه (إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل وأوِّل النقل)، والتي فتحت الباب قديماً أمام كل مكذب للرسل وللوحي، وأفضت بأهل الكلام في النهاية إلى نفي وعدم إثبات صفات الله الخبرية والفعلية وتأويل نصوصها بما لا دليل عليه من قرآن ولا سنة، بزعم تنزيهه تعالى عنها وبدعوى تعارض نصوصها مع العقل وكونها موهمة للتشبيه والتجسيم، كما أفضت إلى اتهام كل من يثبتها على الوجه اللائق به سبحانه من غير تشبيه ولا تجسيم بأنه ضال ومبتدع في دين الله ومخالف لما هو الأحكم والأعلم، مع أن هذا هو هدي النبي r وصحابته.
تراجع الرازي عن كل هذا، وكان من كلامه – رحمه الله – وقد نقله عنه ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية ص 148 ط. دار الهيثم، والذهبي في سير أعلام النبلاء 21/ 501 ط مؤسسة الرسالة، وغيرهما: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات – يعني: المنافي للتأويل أو تفويض المعنى –: (الرحمن على العرش استوى.. طه/ 5)، (إليه يصعد الكلم الطيب.. فاطر/ 10)، وأقرأ في النفي – يعني المجمل –: (ليس كمثله شيء.. الشورى/ 11)، (ولا يحيطون به علماً.. طه/ 110)"، ثم قال: "ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".
ومما ساقه ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية بنفس الصفحة، ما كان أيضاً من الرازي عندما دخل على تلميذه شمس الدين الخسروشاهي يوماً، فقال له الرازي: "ما تعتقده؟، قال: ما يعتقده المسلمون – يعني: الإثبات وعدم التأويل – فقال: وأنت منشرحُ الصدر لذلك مستيقنٌ به؟، قال: نعم، فقال الرازي: (اشكرِ الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد)، وبكى حتى اخضلت لحيته" أ.هـ، وكلاماً مثل هذا حكاه ابن أبي العز عن الإمام الجويني وابن أبي الحديد والشهرستاني والخونجي والغزالي وغيرهم.. فليُراجع وليُراجع معه ما ذكره – على سبيل المثال لا الحصر – الإمام الذهبي في كتابيه (سير أعلام النبلاء) 19/ 323، 325، 344، 346 و(العلو) ص 188 والسبكي في (طبقات الشافعية) ط. الحلبي 5/ 185، 191، 8/ 96 وابن تيمية في الحموية ص 7، 53: 59 وابن العماد في (شذرات الذهب) ط. دار الفكر 3/ 361، 362، 5/ 22 والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 13/ 55 ط. م. دار المعارف وابن القيم والموصلي في مختصر الصواعق ص9 وابن حجر في لسان الميزان 4/ 426.. وقد ساق جلُّهم عن الفخر الرازي، ما ذكره في كتابه (أقسام اللذات) الذي صنفه في نهاية حياته من قوله نظماً:
نهايـــة إقــــدام العقـول عقـــــال ... وأكثـر سعي العالمين ضــلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحـــاصل دنيانـــا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالـوا
وكم قــــد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالـوا
وكم من جبال قـد علت شرفاتها ... رجــال فـزالوا والجبال جبـــال
وكان حاله قبل ذلك، هو ما حكاه عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 21/ 501 قائلاً: "قد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم.. وانحرافات عـن السنة، والله يعفو عنه، فإنه تُوفي على طريقة حميدة والله يتولى السرائر"أ.هـ.
ومن صريح ما جاء عنه في أمر تراجعه، ما ذكره الحافظ ابن كثير بحقه، حيث قال في البداية والنهاية 13/ 55: "وقد ذكرتُ وصيته عند موته، وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها – يعني في وصيته – إلى طريقة السلف، وتسليم ما ورد – يعني: مما أوَّله في آيات الصفات – على وجه المراد اللائق بجلال الله سبحانه" أ.هـ.. فيكون الرازي بهذا قد تراجع عن قاعدته المدعاة بأنها ذهبية وعما تمخض عنها من نتائج وما بناه عليها من أسس، وأعذر بذلك إلى الله.. فما يكون عذرنا نحن يا فضيلة شيخ الأزهر ويا كل علماء وطلاب وأساتذة وشيوخ الأزهر؟ّ!.
هل يسوغ لنا – مع احترامي وتقديري للجميع – أن ندين الله بالذي تاب الرجل إلى الله منه، ورجع عن القول به من تأويل ما نص عليه صحيح النقل من نصوص الصفات وغيرها؟!.. هل يليق بنا ونحن ننشد الحق أن نتجاهل ما كتبه ابن تيمية وعنون به كتابه المسمى: (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)، وهو كما نرى قد صُنف خصيصاً للرد على الفخر الرازي وعلى كتابه (تأسيس التقديس)، وقد نقض شيخ الإسلام عرى ما احتج فيه الرازي من قواعد المعتزلة في المعقول والمنقول؟ّ!.. هل يجوز أن نتمسك وندرس وندرَّس لأبنائنا في الأزهر الشريف عقيدة تخلى أصحابها عنها وانخلعوا وتبرئوا إلى الله منها، ونترك ما استقروا عليه ولقوا الله به؟!.
10:- لله در الفخر الذي كان يعد مرجعاً للمتكلمين وأكثر المنظرين لمذهب الأشاعرة، ولله در أبي الحسن الأشعري إمام المذهب، ولله در كل من رجع إلى ما رجعا إليه، فوالله ما رجعا وما رجعوا إلا إلى الصواب.. ولقد كان الصحابة وتابعيهم بإحسان يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرجال ولا يقرون على ذلك، وتحكي كتب التراجم أن ابن عباس كان يحتج في متعة الحج بسنة رسول الله r وأمره لأصحابه بها، فيقولون له: إن أبا بكر وعمر أفردا بالحج ولم يتمتعا، فلما أكثروا عليه قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر؟).. ولما سُئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها، فقيل له: إن أباك نهى عنها، فقال: إن أبي لم يُرد ما تقولون، فلما أكثروا عليه قال: (أمْرُ رسول الله r أحق أن تتبعوه أم أمر عمر؟!).. فكانت نصوص الوحي أجلَّ في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها برأي أحد من الناس.
ولكم حذروا من الأخذ بالرأي الناشئ عن العقل دون الشرع المبتنى عن النقل، وما خطر ببال واحد منهم أن يعارض هذا بذاك، أو يرضى برأي يخالف إجماعاً أو نصاً من كتاب أو سنة، حتى قال بلال بن سعد: (ثلاث لا يقبل الله معهن عمل: الشرك والكفر والرأي)، فلما سئل ما الرأي؟، قال: (يترك سنة الله ورسوله ويقول بالرأي).. وقال بعض العلماء: (ما أُخْرِج آدم من الجنة إلا بتقديم الرأي على النص، وما لُعن إبليس وغُضب عليه إلا بتقديم الرأي على النص، ولا هلكت أمة من الأمم إلا بتقديم آرائها على الوحي، ولا تفرقت الأمة فرقاً وكانوا شيعاً إلا بتقديم آرائهم على النصوص)، وكان عمر بن الخطاب t يقول: (يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله r برأيي اجتهاداً، والله ما آلو عن الحق، وذلك يوم أبي جندل والكتاب بين يدي رسول الله r وبين أهل مكة، فقال رسول الله: اكتب، بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: بل تكتب كما نكتب: باسمك اللهم، فرضي رسول الله r وأبيتُ عليه، حتى قال رسول الله: تراني أرضى وتأبى؟!).
ومما ترجم له البخاري: باب (ما يُذكر من ذم الرأي وتكلف القياس)، ثم ذكر فيه خبر سهل بن حنيف وقوله: (يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم فلقد رأيتُني يوم أبي جندل، لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته).. والكلام في ذلك كثير، وكله يدل على أنه لا تثبت قدم أحد من الناس على الإيمان إلا بالتجرد والتسليم المطلق لما جاء عن الله ورسوله، وألا يعارضهما برأي أو عقل.
11-: أن من المعلوم بالضرورة أن عقل النبي r أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق بحيث لو وزن عقله بعقولهم لرجحها، وقد أخبر الله أنه قبل الوحي لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان، وقال في حقه: (ووجدك ضالاً فهدى..الضحى/ 7).. فإذا كان أعقل الخلق على الإطلاق، ما حصل له الهدى إلا بالوحي كما دلت عليه آية الضحى وكما أفاده قوله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحِي إليَّ ربي.. سبأ/ 50)، فكيف يحصل لسفهاء العقول الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الوحي، حتى اهتدوا إلى المعارضة بين العقل ونصوص الأنبياء؟!.
12-: ثم إن الله تعالى قد أخبر في كتابه أن ما على الرسول إلا البلاغ المبين، وقد شهد الله له – وكفى بالله شهيداً – بالبلاغ الذي أُمر بعده بقوله تعالى: (فتول عنهم فما أنت بملوم.. الذاريات/ 54)، وشهد بأنه قد بلغ: أعقل الخلق وأعلمهم وأفضلهم صحابته y، وأشهد ربه عليهم بذلك في أعظم مجمع وأفضله وهي عرفات في حجة الوداع.. فلو لم يعرف المسلمون ويتيقنوا بما أرسل به رسولهم، وحصل لهم منه العلم واليقين، لما حصل منه البلاغ المبين ولما رُفع عنه اللوم، ولأحالهم الله في طلب العلم واليقين لما أوحى به إليهم، على عقولهم وآرائهم.. وهذا معلوم البطلان بالضرورة[ينظر مختصر الصواعق ص 87، 88].
13-: أن العقول تختلف في نظرتها إلى الأشياء حُسناً وقبحاً، فما يراه عاقل خيراً يراه غيره شراً، ولذلك تتعارض المذاقات وتشتعل الاختلافات، فلو أخِذَت أمور الدين – بدعوى تعارض الأدلة – بالعقل، لما اتفق اثنان على شيء، ومن هنا كانت رحمة الله بعباده أن جعل السيادة في الأحكام الشرعية التكليفية – من واجبات ومستحبات ومحرمات ومكروهات – للنقل، فهو وحده الذي يَحكم بحسن الأشياء وقبحها، والعقل فيها تابع للنقل يؤيده ويعضده.. والقول بعكس ذلك أو غيره، من شأنه حتماً أن يُغير ملامح الشريعة ويَنشرَ البدع بين الناس ويجعلَ الدين ألعوبة في يد كل صاحب هوى متبع أو معجب برأيه من كل من هب ودب.
فانحصر استخدام العقل إذن، في: المباحات من أمور الدنيا وفي المصالح المرسلة وأمور السياسة الشرعية التي ليست فيها نصوص صريحة أو أدلة قطعية، فتلك فقط هي التي يجب فيها إعمال العقول وفي إطارٍ من الالتزام بالقواعد العامة لأحكام الشريعة ومراعاة المصالح والمفاسد.. وهذا ما أمر به r وعلمنا إياه في نحو قوله لأصحابه – وقد رآهم يلقحون النخل ونصحهم ألا يفعلوا فنقصت –: (أنتم أعلم بشئون دنياكم).. وقوله – لمن أشار عليه من أصحابه أن ينزل بأدنى ماء ببدر، وقد سأله أوحي هو؟ –: (بل هي الرأي والحرب والمكيدة).. وكذا أخذه برأي سلمان في حفر الخندق.. إلخ.
14- أن مهمة العقل تجاه النقل لمن صَدَق في إيمانه، تصديقُ المنقول تصديقاً جازماً يبلغ العقل به إلى حد اليقين إذا كان خبراً، وتنفيذه ما استطاع إذا كان أمراً، فلا يحل للعقل أن يرد دليلاً ولا أن يعطل نصاً بحجةِ تعارضه مع النقل أو بزعمِ أن في ذلك تغليباً لمصلحة أو مراعاةً لمقصد من مقاصد الشريعة.. إذ أين اعتبار المصلحة أو مراعاة مقاصد الشريعة في ترك الشريعة وإهدار نصوصها والابتعاد بالفطرة عن طريقها طريق الرشاد.. يقول ابن القيم في شفاء العليل ص 302: "العقل الصريح موافق للنقل الصحيح والشريعة مطابقة للفطرة، يتصادقان ولا يتعارضان، خلافاً لمن قال: إذا عارض العقل والوحي قدمنا العقل على الوحي
فقبحاً لعقل ينقض الوحيُّ حُكمَه * ويَشهدُ حقاً أنه هو كاذب".
وقال في أعلام الموقعين نقلاً عن بعض أهل العلم: "كيف لا يخشى الكذبَ على الله ورسوله، من يحمل كلامهما على التأويلات المستنكرة.. ويكفي المتأولين كلام الله ورسوله بالتأويلات التي لم يردها ولم يدل عليها كلام الله، أنهم قالوا برأيهم على الله، وقدموا آراءهم على نصوص الوحي وجعلوها عياراً على كلام الله ورسوله، ولو علموا أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة، وأي بناء للإسلام هدموا بها وأي معاقل وحصون استباحوها، لكان أحدهم أن يخر من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتعاطى شيئاً من ذلك، فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذراً له فيما تأوله هو، وقال ما الذي حرم عليَّ التأويل وأباحه لكم"[أعلام الموقعين4/ 216 بتصرف].
وإذا كان هذا هو حال من قبلنا ممن كانوا على عهد أئمتنا أئمة الهدى، فوالله إن الحال في زماننا الذي فيه رق الدين وضعف الإيمان لجد خطير، ولقد بلغ السيل فيه الزبى حتى وصل الأمر حتى ببعض علمائنا الأفاضل ممن ينتسبون إلى المدرسة العقلية – التي عنوا بها على حد ما جاء في كتاب (حوار هادئ مع الغزالي) ص 9: "التوجه الفكري الذي يسعي إلى التوفيق بين نصوص الشرع وبين الفكر الغربي المعاصر، وذلك بتطويع النصوص وتأويلها تأويلاً جديداً يتلاءم مع المفاهيم المستقرة لدى الغربيين، والإسراف في تأويل النصوص سواء كانت نصوص العقيدة أو نصوص الأحكام أو الأخبار المحضة، وفي رد ما يستعصى من تلك النصوص على التأويل" – وصل الأمر ببعضهم من دون ذكر أسماء، لأن يؤول الملائكة والشياطين والجن والسحر وقصة آدم والطير الأبابيل وغيرها، تأويلاً يخرجها عما أجمع عليه أهل العلم الأثبات، بل ولأن ينكر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وظهور الدجال وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة، ولأن يدخل العقل في قضايا غيبية لا مدخل للعقل فيها ولا داعي للخلاف حولها.. ولحد أن صرنا نسمع من بيننا وممن وُصِفوا بالعقلانيين والتنويريين والتحرريين والممثلين من يعد الطعن في الدين إبداعاً، ويجعل التخلي عن ثوابته من سمات التحضر، بل ومن تبيح لنفسها التعري كيوم ولدتها أمها، وتدعو إلى ذلك – وبكل وقاحة وفي أكبر ميادين القاهرة وأمام مقار شرطة الآداب وفي بلد الأزهر – بنات جنسها.
أضحينا نرى – يا فضيلة شيخ الأزهر ويا كل علمائه ودعاته – من يحاول وباسم تجديد الخطاب الديني، تغيير الأفكار الشرعية التي ورد بشأنها نصوص قطعية الثبوت والدلالة، كعقوبة المرتد وفريضة الجهاد والحدود والحجاب الشرعي وتعدد الزوجات والطلاق والإرث.. ومن يفسر القرآن بمزاجه وعلى هواه.. ومن يرى بثاقب عقله أن هلاك أبرهة وأصحاب الفيل إنما كان بالجراثيم وبوباء الحصبة والجدري.. وأن نحو شق صدره r ومعجزة إسرائه ومعراجه، أمور لم يعُد العقل يطيق قبولها.
وجدنا من ينكر السنة علانية وبكل تبجح.. ومن يستحل الربا والقينات والمعازف.. ومن يبيح السجائر للصائم في نهار رمضان.. ورأينا من يعتبر القرآن نصاً يخضع كسائر النصوص للنقد باعتباره كتاباً أدبياً.. ومن ينكر الشفاعة ومن ينكر عذاب القبر.. ومن يبيح لنفسه في أدبياته لأن ينال من العقيدة ومن الإسلام ومن رسول الإسلام r بل ومن الذات الإلهية.. إلى غير ذلك مما يندى له الجبين، ويعد جناية على الشريعة ولا يصدر عن صاحب دين.
راح كل أصحاب هذه الأفكار مع شنيع ما يرتكبونه وباسم الإبداع وحرية الفكر وتحرير العقل، يُلقبون بأفخم الألقاب والأوصاف وتعقد لهم الندوات والمؤتمرات، وتُفسِح لهم وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة الطرق الموصدة باعتبارهم تحرريين أو مفكرين إسلاميين.. ولا ندري أين – يا فضيلة شيخ الأزهر – دور الأزهر من كل هذا؟، وأين هو من وثيقتكم؟، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
15- مما سبق يُعلم أن تغليب المصلحة المعتبرة وإعمال مقاصد الشريعة، تقتضي بحق، الحفاظ على قداسة النص وسد باب الذريعة أمام هذا السيل الجارف من المخالفات التي نتجت عن تقديم العقل وتأويل النقل، وليس العكس.. فلقد كان من نتيجة فتح هذا الباب لمساحة العقل، الوقوع في عظائم وفظائع وجرائم بحق ديننا الحنيف ومجتمعنا الطاهر النظيف، وكان في وسع الأزهر الحد منها لو هو بذل الجهد في الذب عن نصوص الشرع بدلاً من السعي في إهدارها أكثر مما هي مهدرة، ولو أنه كذلك وضع قواعد وضوابط للحد من تحكم العقل وسيطرته.. كان بمقدوره إن هو أمعن النظر وأدرك ما لدى السلف الصالح وأهل الاجتهاد من علم وفكر، أن يستل من نصوص الشريعة، أحكام كل ما يعن للأمة من مستجدات مهما بلغت دقتها أو ندر وقوعها، بدلاً من أن نخضع بلادنا ونصوص وحينا لعادات وأفكار وحضارة من هم ليسوا على ديننا، وبدلاً من التعسف لأجل ذلك في تأويل النصوص وصرفها وإخراجها عن ظاهرها.
وسؤالنا الذي لا يزال يفرض نفسه: متى يدرك الناس ومتى يعرف الأزهر أن للعقل قدراته المحدودة، وأنه ينبغي أن يكون له ضوابط وقيود وخطوط حمراء لا يتخطاها فيما يتعلق بالنصوص الثابتة، وأن النقل إنما جاء هدى للعقل، وأنه في ضوء صحيحه يتحرك كي يحاول فهم ما نقل إليه، فكم من إنسان قصد الحسنات فأخطأها وكم من فاجر قصد السيئات فارتكبها، ما يعني أن العقل وحده إن لم يكن له هاد يهديه ومرشد يرشده، زل وضلَّ، وغوى باتباعه ما يمليه عليه هواه.
هدانا الله لما اختلف من الحق بإذنه إلى صراطه المستقيم.. إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو نعم المولى ونعم النصير وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إعداد
أ.د محمد عبد العليم الدسوقي
الأستاذ بجامعة الأزهر