لا ينكر باحث ضليع في اللغة العربية وفنونها أن الشعر الصوفي مشتمل على تلك الفنون جميعها، وهذه حقيقة يسلم بها كل من فقه اللغة والبلاغة وتمكن منها حتى أنه يستطيع من خلال أشعارهم أن يستشهد على كل قاعدة لغوية أو بلاغية بشاهدٍ من أقوالهم الشعرية، فكأنه جمعت لهم اللغة والبلاغة معاً وكأنهم ملكوا التصرف بتلك القواعد من خلال تلك الإشراقات الروحية والفكرية والتي انعكست على ألسنتهم تصوغ معاني المواجيد بصياغات أدبية كأنها من وحي البيان المنزَّل.
وإذا كان أعذب الشعر أكذبه عند أدعياء المحبة المعاصرين أو أصحاب مدرسة الحب العذري المجازي فكيف تكون عذوبة أشعارِهم عند أصحاب الذوق السليم وهم الذين تساموا وارتقوا عن الحب المجازي إلى الحب الحقيقي ودخلوا للتحقق بجميع حقائقه الوجدانية من أوسع أبوابه.
ولو أن أساتذة اللغة العربية المتخصصين أقبلوا على دراسة قصائدهم وأشعارهم الدراسة الأدبية لاستخرجوا من بحار تلك القصائد أبدع تراث لغوي وبلاغي يكون إثراء للغة العربية وقياماً بحق هذه اللغة على أبنائها والتي هي حياتهم ووجودهم بين أمم الأرض.
- ومن خلال معرفة المفهوم الحقيقي للأدب العربي والذي يعني التعبير الصادق عن المشاعر أو التصوير الرائع للوجدانات بواسطة الألفاظ والكلمات المتآلفة المترابطة وزناً مقفى أو نثراً مسجوعاً أو مرسلاً ندرك قيمة الشعر الصوفي الأدبية.
فما من حرف من حروف اللغة العربية المعجزة إلا ونال عندهم الحظ الأكبر والأوفر عندما جعلوه قافية ورَوِيَ قصائدهم المطولة والتي لا نجد نظائرها عند غيرهم إلا على وجه الإيجاز والاختصار.
فابن الفارض مثلاً في قصيدة:
سائحة الأظعان يطوي البيد طيْ منعماً عرِّج على كثبان طي
أتى بقافية الياء الساكنة وجعل الروي واحداً في تلك الأبيات الكثيرة مع الاختزان والتضمين اللغوي والبلاغي معاً مما يعتبر بحق لوحة لغوية وبلاغية فريدة من نوعها في هذا الباب على مر العصور.
وكأن اللغة العربية مع سعتها وشمولها كانت ضيقة أمام مواجيدهم مما أحوجهم إلى أن يسلكوا مسلك المجاز العقلي والمرسل بأقسامهما وأن لا يدعوا وجهاً من وجوه الاستعارات إلا ويضمنوه أشعارهم مما جعلها تحمل وجوهاً من المعاني الكثيرة والمتعددة والتي تجعل لكل باحث في فن من فنون اللغة والبلاغة نصيباً في الذوق الأدبي على حسب درجته وبلوغه ونضجه وكماله.
فعندما يصل إنسان ما إلى درجة المتكلم وذوقه ويجد مثل ما كان يجد فإنه بالطبع سيذوق مذاقه ويعلم مراده وإلا فسيبقى المعنى في قلب الشاعر وسيكون تفسيرنا لكلامه من قبيل التخرصات والظنون أو مقتصراً على ظاهر اللفظ من غير إدراك حقيقته ومعناه وذلك لأن شعرهم يمثل مدرسة فكرية مستقلة لها مبادئها وأسسها وصيغها الخاصة بها والتي تبقيها متميزة عن المدارس الفكرية الأخرى فشعرهم يتضمن آراءهم الدينية عقيدية وفقهية سلوكية فكل من لم يدخل مدرستهم ويعلم مبادئهم وأسسهم سيبقى في الجانب الآخر متنكراً لقيمة هذا الشعر وقدره الفني الإبداعي ولأصحابه عباقرة الإبداع البياني.
ومما زاده رونقاً وسمواً أن القائلين له كانوا متجردين عن المطامع الدنيوية وعن التزلف للأمراء والملوك فلم يكن شعرهم بقصد الاستجداء وإنما جعلوه مظهراً من مظاهر أداء رسالة يحملونها وأنهم مؤتمنون على أداءها بصدق وأمانة للأجيال من بعدهم تورثهم السمو الروحي والرسم الخلقي واللسان الأدبي البياني مما يؤهل سامعيه وقارئيه إلى الإمامة الكبرى للوجود الإمكاني من خلال انطواء الكل في مشاهدهم لتجليات ونفحات أسماء الله تعالى وصفاته.
فشعرهم وإن تعددت أساليبه إلا أن يلتقي بقواسم مشتركة بين المتقدمين والمتأخرين لاتحاد المفهوم العقائدي والفكري فيما بينهم على ممر الأزمنة كما قال أحدهم:
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكلٌ إلى ذاك الجمال يشير
وقابلوا بشعرهم هذا والذي حفظوا به للأجيال مبادئهم، المدارس الفكرية الأخرى والتي جعلت من الشعر سوراً لمعتقداتها وأفكارها كالفلاسفة والمعتزلة والخوارج والشيعة وغيرهم.
ومثلوا لنا بأشعارهم الجانب الروحي من الدين وبثوا فيه أسرار أرواحهم فكان مشتملاً على الزهد والحكمة والوعظ من جهة وعلى المحبة والعشق والاعتبار الوجودي من جهة أخرى.
وإن أساتذة اللغة العربية المعاصرين والذين درسوا أشعار الصوفية دراسة أدبية أعجبوا أيما إعجاب بذلك المستوى الذوقي الرفيع ورأوا في تلك الدواوين الشعرية المطبوعة والمخطوطة كنزاً من كنوز الأدب العربي والذي تفتخر به الأمة العربية على غيرها من الأمم خصوصاً عندما رأوا المستشرقين مهتمين وأيما اهتمام بدراسة تلك القصائد وفك رموزها وألغازها والوصول إلى حقائقها والتي كان لها الأثر الكبير في أوروبا في العصر الوسيط وخاصة في اتجاهات بعض المفكرين والأدباء الغربيين.
ونذكر منهم الفيلسوف الإسباني رامون 1235/1315م والفيلسوف خوليان ريبيرا والمستشرق المشهور أسين بلاثيوس.
ولقد قام الأستاذ الدكتور عبد الكريم اليافي بدراسات موسعة عن الشعر الصوفي وأثره ودراسة رجاله في كتابه (دراسات فنية في الأدب العربي) وذكر شواهد كثيرة في الرمز الصوفي وأعجب بها كثيراً.
وكذلك الأستاذ الدكتور /علي صافي حسين/ في كتابه (الشعر الصوفي).
وكذلك الأستاذ الدكتور /شكري فيصل/ في محاضرات نصوص الدول وأعجبني فيها قوله: (إن بعض المؤثرات الشعرية ظلت تسمو على كونها في حكم الانحدار ومن أبرزها الشعر الصوفي).
ويقوم حالياً الأستاذ الدكتور /أسعد علي/ في محاضراته ومؤلفاته باهتمام ةتأثر بالغين بدراسة التصوف نثره ونظمه وإبراز الوجوه الإبداعية لطلاب كليات الأدب العربي.
ولهؤلاء جميعاً الشكر على ما بذلوه من محاولات لإظهار هذا المخزون المكنون من تلك اللآلئ وإخراجها من أصدافها وإبرازها بثوبها الحقيقي الموشى بجميع الألونة الزاهية حتى تكون مواكبة للتقدم الحضاري والإبداعي الكوني عند أمم الأرض كلها لأن الحضارة حق مشترك لجميع تلك الأمم:
الكشمس في كبد السماء وضوؤها يغشى البلاد مشارقاً ومغارباً
وإن القادرين على العطاء البياني والدفاع عن الحقيقة المشوّهة لدى البعض والمدفونة عند آخرين يُعتبرون إذا حَجَبوا أنوار تلك الشموس الفكرية عن أبناء المجتمعات من حولهم آثمون إثم من بقي منهم في الظلام الفكري الدامس لأنه ميت في صورة حي لم تنفخ روح الحياة الحقيقية في قلبه وفكره من العلماء الأحياء في الحياة أولئك هم الذين تنعموا بشمس المعرفة واستأثروا بها على غيرهم من بني الإنسان فعاشوا أحياء بين الموتى، لم يُعرف قدَرُهم عند أحد من أهل عصرهم لأنهم جهلوا قدر الإنسانية المعذبة وحقوق عصرهم الذي يعيشون فيه.[center]