الإمام الرباني
الـــمـــوطـــن : سورية عدد المساهمات : 173 نقاط : 517
| موضوع: مكاشفة الذات الثلاثاء 23 يوليو 2013, 11:47 am | |
| من ظن أن هناك من بلغ أعماق ذاته فقد تمغلط، لأنها تكشف له في كل مرة عن غور لم يكن يعتقد أنه سيصله أو انه سيظهر له أو يطلع إليه...
ومن ظن أن هناك من بلغ الصدق مع ذاته فقد بالغ، لأن الصدق متوقف على مكاشفة النفس، والنفس ترفض هذه المكاشفة والتفتيش...
ومن ظن أن هناك من استطاع الانتصار على نفسه فقد تخايل، لأنه إن لم يبلغ الغور ولم يطق المكاشفة فمن أين له بالانتصار..
ومادام هذا الاحتمال قائما فليس هناك ما لا يتوقع وقوعه من هذه الذات..
أنا لا أطعن في النوايا ولا أحاكم القلوب، ولكني احتكم دائما إلى العقل وواقع الحال، فكما أن النوايا مناط الأعمال،
فكذلك الأعمال كواشف للنوايا، لأن العمل إذا لم يكن له ما يبرره وينيطه بهذه النية، فمن الحمق والسذاجة أن نتعسف له في العذر بلغ صاحبه ما بلغ من الصلاح...
يظن البعض عندما ننتقد أحدا من أهل الفضل أو العلم والصلاح أننا نسيء إليه أو لا نحسن الظن فيه أو لا نحبه، وذلك لأنه كون له صورة كمال لا يريد أن يتصور فيها ما لا يمكن تصوره منها
وبناء عليه عنده فإن من تقوى الله ومخافته عدم التعرض له، فيخلط بهذا التصور العاطفي بين ذات هذا الشخص وبين أقواله وأفعاله.. فيصبح الكلام على قوله كلاما في ذاته..
القادم من تايلند
كنت مرة في مجلسي فدار الحديث حول مسألة من مسائل الإجماع، وأن المخالف لا يعتد بخلافه مالم يكن مجتهدا مطلقا، فقال أحدهم:
ولكن الشيخ فلان يقول بخلاف هذا الإجماع الذي ذكرت،
قلت: لايعتد بكلام فلان هذا الذي تقول،
قال: هذا الشيخ مجتهد مطلق..
قلت: من أنبأك هذا؟
قال: أنا أعلم أنه مجتهد مطلق..
قلت: هل تعلم أن ابن تيمية على جلال قدره والنووي على وفور علمه لا يعدان من أهل الاجتهاد المطلق؟
فهل يكفي وصفك إياه بهذه الصفة حتى يكون مجتهدا مطلقا؟
وما ضوابط المجتهد المطلق التي تعرفها؟
قال: هو رجل عالم والناس جميعها تحبه، بل وقد جاء رجل من تايلند يريد أن يستفتيه..
قلت: ومن قال إني لا أحبه أو أنني أنفي عنه صفة العلم، ولكن مجيء رجل من تايلند ليستفتي شخصا، ومحبة الناس للشخص ليست من ضوابط الاجتهاد المطلق،
قال: كتبه تدل على علمه..
قلت: صدقت.. فقط تدل على علمه... ثم أغلقت باب هذا النقاش العاطفي.
نحن نعاني كثيرا من هذه الظاهرة التي تريد إقصاء العقل، وإعمال العاطفة..
من قال إنني عندما أتكلم عن فلان أو أنتقده أنني لا أحبه، أو أعتبر نفسي أفضل منه أو أريد الإساءة إليه...
يقول يحيى بن معين: "إنا لنطعن على أقوام ربما حطوا رحالهم في الجنة منذ مائتي عام".. ويحيى بن معين هو صاحب الإمام أحمد وأحد أئمة الجرح والتعديل..
وهو عندما يقول هذا الكلام يعني أنه يتكلم في الرجال، يجرح من يجرح، ويعدل من يعدل رعاية وحماية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بغضا لواحد وحبا لآخر...
فمتى ما دعي الداعي جاز الكلام بضوابطه التي تحفظ للرجل هيبته مع بيان ماله وما عليه... هذا ما نريد.. عقلا نتحاكم إليه لا عاطفة نستأسر عقولنا لها.. نريد عقلا في جرأة، لا جرأة في عاطفة.. فلا معصوم إلا من عصم الله...
لاشك أن الغالب في الصالح الصلاح، وشرف صلاحه يدفع عنه كل مالا يمكن تصوره منه... يقول أهل الأدب:
كفى الصادق شرفا أن يصدقه الناس ولو كذب، وكفى الكاذب شؤما أن يكذبه الناس لو صدق.. فكذلك الصلاح يحجب ما لا يتصور من الصالح ما ينافي صلاحه...
ديننا دين الفطانة لا دين الدروشة والغفلة، وخبايا النفس لا يكاد ينجو منها أحد، وإليك من شأن هذه الخبايا ما يعجب.... "
قال إمام الأئمة ابن خزيمة: يصف محمد بن الحكم ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين من محمد بن عبد الحكم..
ثم قال: لما مرض الشافعي رحمه الله جاء ابن عبد الحكم ينازع البويطي في مجلس الشافعي، فقال البويطي: أنا أحق به منك، فجاء الحميدي وكان بمصر، فقال:
قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من البويطي، وليس أحد من أصحابي أعلم منه.
فقال له ابن عبد الحكم: كذبت،
فقال الحميدي: كذبت أنت وأبوك وأمك،
وغضب ابن عبد الحكم فترك مجلس الشافعي"..
طبقات الشافعية- 2\68
فيا أيها الأحبة.. أهل الفضل والعلماء رجال يعملون ويخطئون وليسوا ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون...
أنا لا أخص أحدا بكلامي دون أحد ولكنني أقرر حقائق أريد أن أدفع بها أحكاما تبنى غالبا على العاطفة والذوات، لا على العقل والاستدلالات...
هذه الخبيئة الخاملة الكامنة في أغوار النفس الصالحة، عندما تنشط لأي سبب تخرج منها على صورة ما لا يمكن تصوره من الصالح.. وصور ذلك كثيرة،
ولكني سأقصر كلامي على حب الشهرة والظهور لأنه الأكثر شيوعا والأشد خفاء وخطرا على الناس، فهو من باب ما لا يتصور وقوعه لمن عرف بالصلاح،
وحب الشهرة والظهور لا يكون ظاهرا في حق من عرف بالصلاح كظهوره على غيره، بل تتأوله النفس تأولا مرحليا حتى تظهر له حساب ما لم يكن في حسبانه،
وتحيل ما كان يرى فيه بأسا إلى ما لا بأس فيه، وتقلب عليه ترتيب تكاليفه، وتدفعه دفعا إلى البحث عن التعاليل والأسباب، ولن يعجز مثله عن التنظير بمثلها، وسأل في ذلك من كانوا، وماذا صاروا؟!
وحب الظهور مما تهفو إليه النفس وتطرب له، وهو من باب حب الثناء والمحمدة إلا أنه زائد عليه في انتشار ساحة المدح ومعرفة الناس للممدوح وفي ذلك مالا يخفى في الرغبة في طلبه...
ومن الطرائف في طلب الشهرة والظهور ما ذكر عن الحسن بن أحمد بن البقاء الحنبلي أنه قال: "هل ذكرني الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الثقات أو مع الكذابين؟
قيل ما ذكرك أصلا.. فقال يا ليته ذكرني ولو مع الكذابين.."
ألقاب وإقلاب
لا أظن أن هناك كثيرا من يخالفني رأيي عندما أقول أن الألقاب قد فقدت هيبتها وبهت بريقها وازدحم الناس على طلبها لسهولة الحصول عليها، ويحزنني أن أخص ألقاب الشريعة وما يحزنني أكثر هو استباحة هذه الألقاب وبالأخص لقب العلامة..
فما أكثر ما نسمع عن استضافة العلامة الفلاني، أو فتوى العلامة الفلاني، أو مفتي الأنام العلامة الفلاني، ويا ليت شعري ما يعنيه بمفتي الأنام التي لا أعرف من أين أتى بهذا اللقب، وهل يوجد هذا في الخارج أم هو من باب المطلق؟؟!د
أعود إلى لقب العلامة..
لا أريد أن أقطع وأقول، لو علم من يلقب هؤلاء الرجال بلقب العلامة، لو علم معناه لأحجم عن بذله هكذا دون حساب، وسأذكر تعريف العلامة، لعل في هذا التعريف من سبيل إلى رادع...
يعرف العلامة بأنه "من كان من العلوم بحيث يقضى له من كل علم بالجميع"..
ويلزم من هذا التعريف أنه لكي يكون الإنسان علامة، يجب أن يكون إماما في كل فن، فهو في اللغة إمام وفي الفقه إمام وفي الحديث إمام وفي التفسير إمام وفي الأصول إمام وفي علم الكلام إمام وفي الأدب إمام فهل من علاماتنا اليوم من حاز معشار هذا اللقب؟
بل إن بعض من يلقب بالعلامة اليوم من لا يحسن التجويد... ولكنها العاطفة والسطحية في المعرفة...
يقولون أقوالا ولا يعلمونها ●●● ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
علم الله أنني عندما أتكلم في ذلك إنما أتكلم من باب إنزال الناس منازلهم، ومن باب إزاحة العاطفة والبعد عن التهاويل الفارغة، فما حاجتنا اليوم إلى هذه الألقاب؟
بل وما حاجتنا إلى علماء يحملون هذه الألقاب على الحقيقة.. هل بعث النظّام أو الجبّائي أو المريسي حتى نحتاج إلى من يناظرهم ويقارعهم الحجة.
كثير ممن يحمل هذه الألقاب لو فتحت صندوق علمه لوجدته فارغا إلا من بعض زواياه ومع ذلك يعده العوام عالما..
نحن لا نحتاج اليوم إلى علامة حقيقي بقدر ما نحتاج إلى علماء درسوا العلم على أصوله على الثقات من العلماء وتأدبوا بأدب الطلب، يجيبون على أسئلة العوام التي لا تتعدى الطهارة والصلاة وبعض الصور البسيطة في المعاملات ثم يتصدى فيما بقي له من علم لبحث ما يستجد من مسائل يحتاجها الناس، هذا ما نحتاجه قياسا على مستوى الناس... | |
|