بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا و حبيبنا و شفيعنا محمد و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..... و بعد :
كثر الكلام حول لمنهج الأصوب في التعامل مع نصوص الصفات الإلهية و تحديد ما هو صفة و ما هو إضافة ... و ما يليق بالله عز وجل .
و مع ان كتب التايخ و تصانيف العلماء تطفح تفويضاً و تاويلاً .... إلا أنه ظهر من يقول بتخطئة هذين المنهجين إما بأسلوب هادئ ... أو قد يصل احياناً إلى التكفير و القدح .
و من هذا المنبر الطيب في منتدانا الغالي أود ان أقدم هدية صغيرة لقراء هذا المنتدى و أعضائه الكرام تحوي على بعض الأمثلة التي سقتها مثلاً لا حصراً من كلام الصحابة و الأئمة و التابعين ..... أرجو ان يكون فيه الهداية لي و لكم .
روي عن سيدنا عبد الله ابن عباس – الذي دعا له النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : اللهم علمه الكتاب -
عدة أسانيد صحيحة في التأويل .... نذكر منها :
ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 13/428 ) أن ابن عباس رضي الله عنه قال في شرح {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (42) سورة القلم .... قال : يوم يكشف عن شدة ، فلم يُثبت أن لله تعالى ساقاً على ظاهر الآية ... بل أولها بما يليق بجلال الله .. و من منبع فهمه للغة العربية و علمه بكتاب الله .
كما قال ابن جرير الطبري في تفسيره للآية ذاتها : ( قال جماعة و الصحابة من التابعين من أهل التأويل : يبدو عن أمر شديد ) . و نقل الحافظ ابن جرير ذلك أيضاً عن مجاهد و قتادة و سعيد بن جبير .
و في كلام الطبري تنبيه لطيف لمن ألقى السمع و هو شهيد ... فبقوله (( جماعة من الصحابة و التابعين )) إثبات قطعي بأن من الصحابة والتابعين من انتهج هذا النهج و ليس هو بدعاً من الأمر و لا تحريفاً ولا تزويراً . فتنبه أخي القارئ .
و نقل أيضاً الطبري عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنه تأويله لقوله تعالى : {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (47) سورة الذاريات ..... قال ابن عباس : أي بقوة .
وكلمة ( أيد ) جمع يد و هي الكف كما في القاموس المحيط و منها قوله تعالى : {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ..} (195) سورة الأعراف .
و قد عدَّ أهل اللغة حوالي خمسة و عشرين معنى لليد ... منها ( القوة ) كما في مثالنا السابق ... و منها أيضاً
( التفضل و الإنعام ) كما في قوله تعالى { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (17) سورة ص
و للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله مواقف مشهودة في باب التأويل يلزم أن نسلط الضوء عليها .
فقد ذكر الحافظ ابن كثير في البداية و النهاية أن الإمام أحمد رد على الجهمية عندما احتجوا عليه بقول الله تعالى :
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } (5) سورة الشعراء .. قال الإمام أحمد : يحتمل أن يكون نزوله علينا هو المحدث لا الذكر نفسه .... انتهى كلامه
و قد استند الإمام أحمد في ذلك إلى أنه يستحيل أن تجري على المولى عز وجل الصفات المحدثة .... فالقديم لا يتصف بالمحدث .... لذلك تأول النص القرآني بأن الذكر قديم ... لأنه كلام الله .. لكن تنزيله علينا هو المحدث .
و روى الخلال بسنده عن حنبل عن عمه الإمام أحمد أنه سمعه يقول : (( احتجوا عليَّ يوم المناظرة فقالوا : تجيء يوم القيامة سورة البقرة .... الحديث ... فقلت إنما هو الثواب )) فهل بعد هذا التأويل تأويل .
فإن كان الإمام أحمد قد تأول مجيء سورتي البقرة و آل عمران ... أفلا يكون تأول مجيء الله تبارك و تعالى أولى ..!!
و نذكر قول الإمام البخاري – رحمه الله –في التأويل فقد نقل الحافظ البيهقي عن الإمام البخاري أنه قال
( معنى الضحك الرحمة ) ...- و لم يقل أن الله تعالى يضحك ضحكاً يليق به – فتنبه .
و قد ذكر ابن الجوزي في كتابه ( دفع شبه التشبيه ) أن الحافظ النضر بن شميل ( و هو من رجال الستة ) ولد في سنة 122 هـ قال : إن معنى ( حتى يضع الجبار فيها قدمه ) ... أي من سبق في علمه أنه من أهل النار ... – و لم يقل أن لله تعالى قدماً لكن ليس كأقدامنا – .. و قاله أيضاً الإمام أبو منصور الأزهري
و قد روى أبو عبيد الهروي- صاحب كتاب غريب القرآن و الحديث - عن الحسن البصري أنه قال : القدم ، هم الذين قدمهم الله تعالى من شرار خلقه و أثبتهم لها .
و لننظر بعين الإنصاف لكلام ابن حبان في صحيحه فله درة ثمينة في هذا الباب .
فقد علَّق العلامة ابن حبان على حديث (( حتى يضع الرب قدمه فيها )) – و الذي يستشهد به (( المثبتون )) على إثبات صفة القدم لله تعالى – فقال ابن حبان : ( هذا الخبر من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة و ذلك أنه يوم القيامة يلقي الله تعالى في النار من الأمم و الأمكنة التي يعصى الله عليها فلا تزال تستزيد حتى يضع الجبار تبارك
و تعالى موضعاً من الكفار و الأمكنة في النار فتمتلئ فتقول : قط قط ... أي حسبي حسبي ... لأن العرب تطلق اسم القدم على الموضع – و انظروا إلى هذا الدليل – قال الله جل و علا : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } (2) سورة يونس يريد موضع صدق ، لا أن الله تعالى يضع قدمه في النار جل ربنا و تعالى عن مثل هذا و أشباهه ) انتهى كلامه .... فتأمل .
و نذكر هنا نبذة صغيرة من كلام أئمة السلف عن موضوع الاستواء .
فقد روى الإمام الطبري في تفسيره للآية { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء }.. ما نصه : و العجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء }..الذي هو بمعنى العلو و الارتفاع ........ إلى أن قال : إن زعمت أن تأويل : استوى .. أقبل ، أفكان الله تعالى مدبراً عن السماء حتى يقبل إليها ... فإن زعم أن ذلك ليس إقبال فعل لكنه إقبال تدبير .. قيل له فكذلك قل : علا عليها علو ملك و سلطان لا علو انتقال و زوال .
فمن ذلك نجد أن تفسير الاستواء بالملك و السلطان لا بالعلو الحسي ... هو منهج السلف كما نقل ذلك ابن جرير و الحافظ ابن حبان و البيهقي و من بعدهم الحافظ النووي و ابن حجر ... و هذا الأخير كان له موقف حازم و جازم في قضية الاستواء فقد قال في فتح الباري (( و لا يلزم من كون جهتي العلو و السفل محال على الله ... ألا يوصف بالعلو ... لأنه وصفه بالعلو من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من جهة الحس )) .
من هذه الأمثلة نستنتج أن التأويل هو مذهب السلف .. ابن عباس صحابي و مجاهد تابعي و ابن جرير من أئمة السلف المحدِّثين و لا يخفى قدر الإمام أحمد و ابن حبان و الطبري و البيهقي و ابن حجر و البخاري و غيرهم الكثير .
فإن لم يكن هؤلاء سلفنا الصالح فمن يكون ...!!؟
فعلى من يتهم الأشاعرة بالضلال و الانحراف عن نهج السلف في مسألة التأويل أن يعيد حساباته و يوسع آفاق رؤيته و يتتبع إجماع السلف و العلماء و لا يقتصر في إطلاعه على شيخ أو عالم محدد ... و علينا أن نكون متبعين لسلفنا الصالح و جمهور علمائنا بالأفعال و الاعتقاد .. و ليس بألسنتنا فقط .
أسأل الله ان يجعلنا على خطى سلفنا الصالح و علمائنا قولاً و عملاً
[b]