من مظاهر الضعف العلمي عند المجسمة تعلقهم بأي شيء يخدم مذهبهم دون الالتفات إلى صحة ما تعلقوا به أو صلوحيته أصلاً لأن يكون دليلاً.
مرة يستدلون بقلب النعال.
ومرة بالفطرة
ومرة بالخنافس:
وهنا سأذكر ما أعرفه حول شبهتهم في رفع اليدين إلى السماء عند الدعاء، فهم يعتقدون أن الله في السماء ولذلك أنت عندما تدعوه فإنك ترفع يديك إليه، وللإجابة على ذلك:
1. لو صح ما يتوهمونه لصح لمعتقِد أن يعتقد وجود الله في جهة القبلة للسبب ذاته الذي يحتج به المجسمة وهو توجه العبد إلى القبلة في صلاته.
بل إن دليل هذا المعتقِد أقوى من دليليهم من حيث أن الداعي يرفع يديه إلى السماء، أما المصلي فهو يتوجه إلى القبلة بجسده كاملاً بما فيه وجهه الذي هو أشرف ما فيه.
بل قد يأتيك هذا المعتقٍد بدليل نقلي يؤيد فيه مذهبه فيقول لك: عن أنس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة ، فشق ذلك عليه حتى رئي في وجهه ، فقام فحكه بيده ، فقال: ((إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه ، أو إن ربه بينه وبين القبلة ، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدميه)).
وقد يعضد مذهبه أيضاً بنهي النبي عليه وسلم عن رفع البصر إلى السماء أثناء الصلاة!
والخلاصة:
الإنسان يتوجه في صلاته إلى القبلة بجسده ووجهه الذي هو أشرف ما فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يبزق الإنسان قبل القبلة، وأيضاَ نهى عن رفع البصر إلى السماء، فلا معنى لكل هذا إلا أن الله في القبلة.
ولن يستطيع المجسمة الرد على صاحب هذه العقيدة إلا بطريقة أهل السنة والتي هي بدورها ستنسف عقيدتهم، فتأمل!
ولا نستطيع هنا تجاهل نص الإمام الذي تعلمنا منه أصل هذا الرد، ألا وهو حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه.
قال رضي الله عنه في "الاقتصاد في الاعتقاد": ((فإن قيل فإن لم يكن مخصوصاً بجهة فوق فما بال الوجوه والأيدى ترفع إلى السماء فى الأدعية شرعاً وطبعاً؟ وما باله صلى الله عليه وسلم قال للجارية التي قصد إعتاقها فأراد أن يستيقن إيمانها أين الله ؟ فأشارت إلى السماء فقال إنها مؤمنة؟
فالجواب عن الأول أن هذا يضاهي قولَ القائل إن لم يكن الله تعالى فى الكعبة وهو بيته فما بالنا نحجه ونزوه؟ وما بالنا نستقبله فى الصلاة؟ وإن لم يكن فى الأرض فما بالنا نتذلل بوضع وجوهنا على الأرض في السجود؟ وهذا هذيان. بل يقال قصد الشرع من تعبد الخلق بالكعبة فى الصلاة ملازمةَ الثبوت فى جهة واحدة فإن ذلك لا محالة أقرب إلى الخشوع وحضور القلب من التردد على الجهات. ثم لما كانت الجهات متساوية من حيث إمكان الاستقبال خصص الله بقعة مخصوصة بالتشريف والتعظيم وشرفها بالإضافه إلى نفسه واستمال القلوب إليها بتشريفه ليثيب على استقبالها. فكذلك السماء قبلة الدعاء كما أن البيت قبلة الصلاة.والمعبود بالصلاة والمقصود بالدعاء منزه عن الحلول فى البيت والسماء.
ثم في الإشارة بالدعاء إلى السماء سر لطيف يعز من ينتبه لأمثاله. وهو أن نجاة العبد وفوزه فى الآخره بأن يتواضع لله تعالى ويعتقد التعظيم لربه. والتواضع والتعظيم عمل القلب وآلته العقل، والجوارح إنما استعملت لتطهير القلب وتزكيته، فإن القلب خُلِق خِلْقةً يتأثر بالمواظبة على أعمال الجوارح كما خُلقت الجوارح متأثرة بمعتقدات القلوب. ولما كان المقصود أن يتواضع فى نفسه بعقله وقلبه بأن يعرف قدره ليعرف بخسة رتبته فى الوجود لجلال الله تعالى وعلوه، وكان من أعظم الأدلة على خسته الموجبة لتواضعه أنه مخلوق من تراب كلف أن يضع على التراب الذي هو أذل الأشياء وجهه الذي هو أعز الأعضاء ليستشعر قلبه التواضعَ بفعل الجبهة في مماستها الأرض فيكون البدن متواضعاً فى جسمه وشخصه وصورته بالوجه الممكن فيه وهو معانقة التراب الوضيع الخسيس ويكون العقل متواضعاً لربه بما يليق به وهو معرفة الضعة وسقوط الرتبه وخسة المنزلة عند الالتفات إلى ما خلق منه.
فكذلك التعظيم لله تعالى وظيفة على القلب فيها نجاته. وذلك أيضاً ينبغى أن تشترك فيه الجوارح وبالقدر الذي يمكنه أن تحمل الجوارح. وتعظيم القلب بالإشارة إلى علو الرتبة على طريق المعرفة والاعتقاد وتعظيم الجوارح بالإشارة إلى جهة العلو الذي هو أعلى الجهات وأرفعها فى الإعتقادات، فإن غايةَ تعظيم الجارحة استعمالها فى الجهات. حتى أن من المعتاد المفهوم فى المحاورات أن يفصح الإنسان عن علو رتبه غيره وعظيم ولايته فيقول أمره فى السماء السابعة. وهو إنما ينبه على علو الرتبه ولكن يستعير له علو المكان. وقد يشير برأسه إلى السماء في تعظيم من يريد تعظيمَ أمره أن أمرَه فى السماء أي فى العلو وتكون السماء عبارة عن العلو. فانظر كيف تلطف الشرع بقلوب الخلق وجوارحهم في سياقهم إلى تعظيم الله، وكيف جهل من قلت بصيرته ولم يلتفت إلا إلى ظواهر الجوارح والأجسام وغفل عن أسرار القلوب واستغنائها فى التعظيم عن تقدير الجهات، وظن أن الأصل ما يشار إليه بالجوارح، ولم يعرف أن المظنة الأولى لتعظيم القلب وأن تعظيمه باعتقاد علو الرتبه لا باعتقاد علو المكان وأن الجوارح فى ذلك خدم وأتباع يخدمون القلب على الموافقة فى التعظيم بقدر الممكن فيها. ولا يمكن فى الجوارح إلا الإشارة إلى الجهات فهذا هو السر في رفع الوجوه إلى السماء عند قصد التعظيم)).