الإفساد في الأرض.. بإبعاد الأمة والالتفاف على شرع ربها
إعداد أ.د. محمد عبد العليم الدسوقي
الأستاذ بجامعة الأزهر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى أله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فكما لا يتأتى الإصلاح بتخريب البلاد، لا يتأتى كذلك ولا يمكن أن يكون بالسعي بإبعادها عن شرعة ربها، فكلا الأمرين يعد فساداً وإفساداً في الأرض لا يحبه الخالق جل وعلا، الذي ما بعث الأنبياء إلا لإصلاح بلادهم وأقوامهم بشرعة ربهم ومولاهم.
وكم كان رئيس المجلس الانتقالي الليبي (مصطفي عبد الجليل) عظيماً وشريفاً وصادقاً وقوياً وأميناً، عندما صرح عقب ثورة 17 فبراير بـ "أن ليبيا مجتمع عربي وإسلامي"، وهو ما أكده في 23/ 10/ 2011عقب تحرير كامل التراب الليبي من نظام القذافي الذي أفقر البلاد وأذل العباد، قائلاًً: "نحن كدولة إسلامية اتخذنا الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع، ومن ثم فإن أي قانون يعارض المبادئ الإسلامية للشريعة فهو معطَّل قانوناً"، وضرب لذلك مثلاً بـ "قوانين الزواج والطلاق التي حدت من تعدد الزوجات"، مبيناً بأن "هذا القانون مخالف للشريعة الإسلامية وهو موقوف"، وقال مردفاً: "وهناك نية صادقة لتقنين كل القوانين المصرفية منها بالذات، نحن نسعى – والكلام لا زال له – إلى تكوين مصارف إسلامية بعيدة عن الربا.. هذا الربا، هو الذي يمحق الصدقات، وهو الذي يأتي بالأمراض، وهو الذي يخلق الشحناء والبغضاء بين النفوس"أ.هـ.
فأعلن بذلك عن أعظم مشروع نهضوي في تاريخ الإنسانية، وكشف من أول يوم عن هوية دولته وعن احترامه لديانة وقانون شعبها، وقطع الطريق أمام عدو الله وعدوها، واستوجب بما أعلنه نعمة تخليصه وشعبه من طاغوت بلادهم بعد أن أقر الله أعينهم بهلاكه بشكل نهائي، كما استوجب رحمات الله القائل: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض.. الأعراف/ 9)، والقائل: (فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.. قريش/ 3، 4)، وذلك بعد أن صدق وأفلح، وذكَّرنا بما كان من النبي rعندما مكن الله له، فأقام شريعة الحق والعدل ووضع ربا الجاهلية كله، كما ذكرنا بقوله تعالى في حق أتباع نبيه المخلصين: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.. الحج/ 41).
ولكم كنا ننتظر شيئاً كهذا ممن أمسكوا بزمام البلدان التي قامت بها ثورات الربيع العربي، الذين أعرضوا ونأوا بجانبهم فأوكلهم الله إلى أنفسهم، وعرَّضوا بلادهم وشعوبهم – طوال ما يزيد عن عام وبسبب بُعدهم عن الأشياخ والمخلصين وعن البطانة الصالحة، وبُعدهم قبل وبعد عن ربهم وعن شريعة ربهم – للنهب والسلب وسفك الدماء وتلاحق الأزمات ونشر الفساد بأكثر – على حد كلام رجل الشارع العادي – مما كان عليه من قبل.. بل وعرَّضهم وهذا هو الأخطر، للاحتلال المقنع الذي أذلنا وأملى إرادته علينا ولا يزال.. وحرمهم ممن يصدُقِ الله في شعوبهم ممن وضعوا على عاتقهم أن يحرروا بلادهم من التبعية ويعلنوا عن هوية شعوبهم ليحيوا كراماً.. وكان ما كان من الاحتجاجات الفئوية والغلاء والوباء والبلاء والحرق والتدمير والتخريب وانعدام الأمن وما أخبر ربنا عنه في قوله: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً.. طه/ 124).
وأضحت المناداة بتطبيق شرع الله في ظل هذه الأجواء الكئيبة أمراً خاضعاً للمزايدة، ولحد أن جاء على ألسنة صانعي القرار السياسي لأكبر الفصائل المحسوبة على الإسلاميين في بلاد المسلمين للأسف، ضرورة "ألا يترشح للرئاسة واحد محسوب على التيار الإسلامي، حرصاً – هكذا زعم فضيلة المرشد بمصر ساعتها – على مصلحة مصر".. قاصدين بذلك أهمية إيجاد نوع من التوافق والطمأنة والإرضاء لجميع الطوائف وكافة الأطراف بداخل البلاد وخارجها، وتجنباً – على حد ما جاء في بعض بياناتهم – لتكرار أحداث حماس في غزة.
وأنا واحد من الناس، لا أدري ما لنا ولحماس، وهل للأخيرة أن تكون حجة على الإسلام والمسلمين؟!، وكيف تكون مصلحة مصر وغيرها من بلدان المسلمين في ابتعادها عن هويتها وشرعة ربها؟!، أو في إعطاء الفرصة لحرمان أهلها – عن طريق لجان وحكومات مشكوك في نزاهتها وولائها ومطعون مسبقاً في أحكامها – ممن تبغيه لنفسها وتختاره بمحض إرادتها وترى أنه الأفضل لأن يسوسها ويسير فيها بما يرضي الله ويوافق شرعه؟!.
لكم كنا في حاجة لمن يستوعب تاريخنا وماضينا يوم أن فشلت تجربة اختيار رئيس يرضي جميع الأطراف في عهد محمد علي باشا الذي اختير على هذا الأساس، فأخلف وعده وعزل الشيخ الشرقاوي شيخ الأزهر ونفى الشيخ عمر مكرم إلى دمياط، ولم يكتف بذلك حتى دبر مذبحة القلعة، وتعقب ابنه إبراهيم باشا من تبقى منهم وسلم مصر للمشروع العلماني الغربي.. ولكم كنا نريد من يتأمل أيضاً حاضرنا ومستقبلنا ونحن نرى سلسلة المؤامرات التي تتَّبعُها أمريكا الآن ضد ثورات الربيع العربي وتروج لها في مصر وتونس واليمن وليبيا، وكيف أنها ومعها قوى الغرب تريد في هذه البلاد تفصيل رؤساء دول يحققون مصالحها ويبعدون شعوبهم عن مصدر عزهم وأساس نهضتهم، التي لا ولن تكون إلا بالتمسك بشريعة من عنده خزائن السماوات والأرض، وهنا يتساءل المرء وحُق له أن يتساءل: ما موقع شعوبنا من هذه الديمقراطية التي يدَّعونها ويرفع الغرب لواءها في ظل هذا التبعية وكل هذه الإملاءات؟، وأين هي إرادة الشعوب العربية والإسلامية من هذه الصفقات؟!،
لكم كنا في حاجة بمن يسير فينا مسيرة العمرين: (ابن الخطاب وابن عبد العزيز)، لا بعكس ذلك ولا بسواه.. وكم كنا نتمنى أن نُرزق بحاكمٍ عادل عالم رباني متجرد لله يقيم فينا الصلاة ويجمع الناس إليها، لا بمن يضطرنا غداً لمحاربته والخروج عليه.. حاكمٍ تعزُّ به الأمة ويكون واضحاً وصريحاً وحراً وصاحب مبدأ وكلمة ولا يخشى في الله لومة لائم، لا من يرى الظلم البين والتزوير الفاضح – الواقع حتى على بعض أقرانه من مرشحي الرئاسة – ثم يسكت عنه ولا يبالي وكأنه راضِ عنه وساع إليه ومشارك فيه.. ولا مَن في شأنه صنف الإمام النووي في رياض الصالحين باباً، وساق فيه حديث أبي هريرة المتفق عليه وفيه قوله r: (.. وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه).. ولا بمن ارتضى ممن لا يرقب فينا إلا ولا ذمة من العسكر لأن يجعلنا بين شقي رحا ويضعنا بين (سندانِ) من ليس في رأسه شرع ولا دين، أو من في قلبه مرض يخاف أن يحيف الله عليه ورسوله، ويبغي من وراء ولايته أن يستحوذ وجماعته التي يدين لها بالولاء والسمع والطاعة على كل شيء، و(مطرقةِ) عدو خارجي ملكه أمرنا فقيدنا وصيَّرنا لا نقوى على أن نقدم بين يديه ولا نؤخر، وله وإليه مآل أمرنا الذي لن ينتهي إلا بما يريده هو لا نحن، بعد أن التهم وأكل منا الثور الأبيض.
والغريب أن يحدث ذلك ويجد لدى الكثير آذاناً صاغية، بعد أن تورطت الدول التي يسعى هؤلاء جميعاً في إرضائها، وفشلت في تأجيج نار الفتنة الطائفية بين جموع هذه الشعوب، ثم توالى فشلها في تقسيم البلاد وتفتيتها، ثم في تخريب ثوراتها عن طريق التمويل الخارجي لما أسموه بـ (منظمات المجتمع المدني لتدعيم الديمقراطية)، وقد نسيت هذه القوى الاستعمارية ومن اهتدى بهداها أو تناست، أن الأمور قد تغيرت الآن وأن الشعوب قد تحررت وبدأت تعي ما يدور حولها وما يحاك ضدها.
ونحن بدورنا لو تأملنا حديث القرآن عن مثل هذه المساومات على دين الله من قِبل أعداء الإسلام أملاً في أن يوجدوا صيغة توافقية مع أصحاب الدعوة الحقة، لوجدناه يفصح عن أن هذا الأسلوب (التمايعي)، قد سبق أن اتبعه المناوئون للإسلام في صدر الدعوة حتى مع رسول الله r، وكان التوجيه من الله، هو: التحذير من التهاون في قليل الدين أو بعضه، ولنقرأ في ذلك قول الله تعالى: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً. إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً.. الإسراء/ 73: 75)، ولك أن تنظر إلى فظاعة هذا الجزاء وبحق مَن صدر؟، وأن تتأمل معه قوله تعالى فيما يحل بحق من يفعله من هذه الأمة: (وإن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون)، والمعنى: لا تتبع "آراءهم التي اصطلحوا عليها وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله.. فإن تولوا وخالفوا شرع الله فاعلم أن ذلك كائن عن قدرة الله وحكمته فيهم، أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم، وإن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه"[تفسير ابن كثير 2/ 67، 68 باختصار].. ثم يأتي التعقيب والسؤال ممن لا معقب لحكمه: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون.. المائدة/ 49: 50)؟ّ!.
وقريب مما سبق – وفي سياق التحذير من الانسياق وراء هذا الجرم الفادح وهو التخلي عن شرعة الله – يحكي القرآن أن صرف الناس عن شريعة ربهم هو من شيم وسمات ضُلال أهل الكتاب وأهل النفاق، فيقول: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق.. البقرة/ 109)، ويقول: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون)، ويقول بعدها: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون.. آل عمران/ 69، 72)، ويقول أيضاً: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء.. النساء/ 89).. فأهل الكتاب لا يكفون عن السعي في فتنة أهل الإيمان عن دينهم، وكثير منهم في زماننا وعلى درب ونهج سابقيهم وعن طريق حملات التبشير وما يخطر على بالهم من وسائل الإغراء، يرون – فيما يرون – أن فكرة (التوافقية) قد أجدت معهم وحققت مصالحهم في أفغانستان والعراق وغيرهما،ويأملون في أن تفلح سياستهم هذه في أن تجعل الإمعات – من ضعاف الإيمان والمنافقين ومن يجيدون إمساك العصا من النصف ويرتضون بأنصاف الحلول – في سائر بلاد المسلمين، تابعة كذلك لهم.
وعن حال المنافقين في اتباعهم نفس الأسلوب مع تسترهم في ثياب أهل الإيمان الصادقين، يقول العليم بأحوال خلقه: (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين)، يعني كما يقول ابن كثير1/ 567: "ساعدناكم في الباطن وما ألوناكم خبالاً وتخذيلاً حتى انتصرتم عليهم.. فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وأولئك ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة إيقانهم"، (فالله يحكم بينهم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً.. النساء/ 141).. ويقول: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً. فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً.. النساء/ 61، 62)، يعني: "إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم واحتاجوا إليك في ذلك، يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق، أي: المداراة والمصانعة"[ابن كثير 1/ 159].. وهذا هو حالنا الآن وما يراد بنا ممن نخشى أن ينسحب عليهم قوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً.. النساء/ 138، 139).
وتكشف آي الذكر الحكيم عن مزيد مما يبعث الرضي في نفوس هؤلاء وأولئك لما يحسبونه من الحيل توسطاً بين الأمور، وفيما يثلج صدورهم تجاه المسلمين، فتُبين أن كل مبتغاهم أن يتحول المسلمون إلى ملتهم ويتبعوا سننهم ومعتقدهم ومصطلحاتهم كيما يضلوا كما ضلوا، إذ بهذا يسهل احتواءهم بعيداً عن تلك العقيدة الصحيحة التي طالما خافوا على أنفسهم منها وأظهرتهم على حقيقتهم وكشفت عما تضمره بواطنهم من حقد وحسد، وبعيداً كذلك عن تيك الأحكام والتشريعات التي من شأنها أن تجعل نفوس المسلمين متعلقة بأهداب تلك العقيدة.. فيقول العليم بأسرار القلوب موجهاً الخطاب لمن هو أثبت منا على الإيمان تعليماً لنا وتأكيداً: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، وإذا بالرد: (قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير.. البقرة/ 120)، ويقول: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً.. النساء/ 60)، وإذا بالرد: (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً. وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله.. النساء/ 63، 64).
وهنا تتوالى النداءات للأمة المرفوعة الرأس المستعلية بإيمانها، وتتتابع التحذيرات من أن تقع في هذه الفخاخ التي نصبها أعداء الإسلام لأهل الإسلام، ويأتي على رأس ذلك: التحذير من أن تنزوي تحت حاكم توافقي ينفذ أوامرهم ويقضي بأهوائهم ويحقق مصالحهم ويعمل لحسابهم على ما هو الحاصل الآن في كثير من بلدان المسلمين.
فمن غير ما سبق يقول جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين كفروا يردوكم بعد إيمانكم كافرين. وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم.. آل عمران/ 100، 101).. (يا أيها آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون.. آل عمران/ 118).. (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. بل الله مولاكم وهو خير الناصرين.. آل عمران/ 149، 150).. (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً.. النساء/ 154)، أي: حجة عليكم في إحلال العقوبة بكم.. (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.. المائدة/ 51، 52).. (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين.. المائدة/ 57).. (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.. المائدة/ 105).. (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون. ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون.. الأنفال/ 20، 21).. (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق)؟!، (تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم عداء ويبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون.. الممتحنة/ 1، 2).. (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور.. الممتحنة/ 13).
وما على الأمة – حيال كل هذه الأوامر وبموجب عقد الإيمان الذي قطعته وأخذته على نفسها – إلا أن تتعلم من كتاب ربها ومن سيرة نبيها كيف يكون الثبات على المبدأ والحفاظ على الإسلام عقيدة وشريعة.. وأن تعلم كذلك أن التنازل عن شيء ولو قل، أو الرضوخ لأعداء الإسلام والإلقاء إليهم بالمحبة والإسرار إليهم بالمودة هو عين النفاق، وأن أولئك الأعداء مهما أسخوا علينا بالأموال وأبدوا لنا الصفحة البيضاء وأظهروا لنا الوجه الحسن، فإن قلوبهم وسرائرهم وبواطنهم – كما حكى القرآن – تقول بخلاف ذلك بل بعكسه.. وما على من تنطلي عليهم أفاعيلهم كذلك، إلا أن يعوا ذلك جيداً ويعلموا أنا قد أوتينا من قبل هذا الأمر كثيراً فيما سبق، وأن يُصدِّقوا من هو أعلم بحقيقة أمرهم سبحانه، وأن يجعلوا التعامل مع هؤلاء مبنياً على أساس من المثلية وتبادل المصالح المشتركة، بعيداً عن عقيدة الأمة وثوابتها وأحكام وتشريعات دينها التي تضبط حياتها.
على أن أهل الإيمان في نظرتهم البعيدة التي رسمها لهم دينهم والتي بها يكتمل إيمانهم، لعلى يقين بأن ما في يديه – سبحانه – الملآي السحاء أوثق مما في أيديهم، وأن نصره تعالى وتأييده لهم متحقق لا محالة إن عاجلاً أو آجلاً، ومن ثم فهم لا يستمطرون الرزق إلا من الذي خزائنه لا تنفد، ولا يستمدون العون والمدد إلا ممن بيده مقاليد كل شيء، كما أن يقينهم بسعة فضله يتجاوز كل حد، ويقينهم بنصره يفوق كل وصف.. فـ (عسى) – في قوله: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) – هي عنده ليست للرجاء وإنما للتحقيق.. والإفصاح عما في قلوب أعدائه والموالين لهم من أهل النفاق – على نحو ما جاء في قوله: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.. البقرة/ 120)، وقوله: (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ.. آل عمران/ 118) – ليس ضرباً من التخمين، وإنما هو صادر ممن خلقهم ويعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.. وأمور النصرة والتأييد وجمع القلوب واجتماع الكلمة على محبته – كما هو متضح في قوله: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين. لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم.. 62، 63) – هي حقاً مِلك له وحده، إذ هو دون غيره المصرف لها والمتحكم فيها والقادر على تحقيقها.. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).. وصلَّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.