بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أما بعد
فهذه دراسة مبسطة مختصرة لقول سيدنا إبراهيم عليه السلام (إني لا أحب الآفلين) نبين ما فيها من القواعد العلمية المعجزة
فلنبدأ والله المستعان
قال الله جل جلاله في سورة الأنعام :
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
-----
1- يخبر الله جل جلاله أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد استقبح في قومه عبادة الأصنام ، فأراد جل جلاله أن يريه ملكوت السماوات والأرض كما أراه قبح عبادة الأصنام فيتوسل بها إلى معرفة الله جلال الله تعالى وقدسه وعلوه وعظمته
قال الإمام مجاهد (104) هـ :
(تفرجت لإبراهيم السماوات السبع حتى العرش فنظر فيهن ، وتفرجت له الأرضون السبع فنظر فيهن)
تفسير ابن أبي حاتم الرازي ج4 ص1326 رقم 7501
جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج9 ص349
الدر المنثور ج3 ص24
وقال الإمام السدي (128هـ) :
(... وفتحت له السماوات فنظر إلى ملك الله فيها حتى نظر إلى مكانه في الجنة ، وفتحت له الأرضون ، حتى نظر إلى أسفل الأرض ...)
تفسير ابن أبي حاتم الرازي ج4 ص1326 رقم7502
جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج9 ص349
الدر المنثور ج3 ص24
--------------------
2- ومن المعلوم أن حصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال ، فلا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها بعضاً خاصة أن هذه المعارف وتلك المعلومات كانت بعين البصيرة والعقل لا بالبصر والحس الظاهر
اللباب في علوم الكتاب / ابن عادل الحنبلي ج8 ص238 - دار الكتب العلمية
--------------------
3- وقد قال الله سبحانه وتعالى : وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام : 83]
فدل ذلك على أن قوم إبراهيم لم يكونوا ليصدقوه في دعواه إلا بدليل عقلي منفصل ومعجزة باهرة (وتجدر الإشارة إلى أن تلك الحجة كانت مفصولة عن قوم إبراهيم بحجاب الله أي نوره الذي من خلاله رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض)
فاستخدم سيدنا إبراهيم الاستدلال العقلي لإظهار الحجة التي يراها هو وقومه كما قال الله في حق هذه الأمة
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت : 53]
--------------------
4- وإراءة جميع العالم تفيد العلم الضروري بوجود الله جل جلاله ، وفي هذه الحالة لا يحصل للإنسان بسببها استحقاق المدح والتعظيم لأن الكفار في الآخرة يعرفون الله بالضرورة ولا يكون لهم بذلك نصيب من المدح أو التعظيم ، أما الاستدلال العقلي على وجود المخلوقات وماهيتها على وجود الصانع الذي صنعها فأتقن صنعها ، فذاك هو الذي أورث المدح والتعظيم
--------------------
5- ويدل على ذلك قوله عز وجل على لسان سيدنا إبراهيم
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام : 79]
فحكم على السماوات والأرض بكونها مخلوقة لأجل الدليل الذي ذكره في النجم والقمر والشمس من إراءة الملكوت والتعريف بكيفية دلالتها بحسب تغيرها وإمكانها وحدوثها على وجود الإله العالم القادر الحكيم
--------------------
6- واليقين عبارة عن العلم المستفاد بطريق التأمل والتفكر والتدبر إن كان مسبوقاً بشك أو شبهة
دل على ذلك قوله الله جل جلاله
وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام : 75]
ليكون ممن يوقن علم كل شيء حساً لا خبراً
وجميع المخلوقات تدل على وجود الله جل جلاله كونها محدثة ممكنة محتاجة له
اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص : 2]
فإن وعى الإنسان هذا الاستدلال فقد طالع جميع الملكوت بعين عقله
--------------------
7- ولما أراد سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم إبطال زعم قومه بربوبية ما سوى الله بطريق العقل فلما شهد حركتها قال (لا أحب الآفلين) بل إنه استرسل بعد ذلك فقال (وإنني بريء مما تشركون)
وباستدلال سيدنا إبراهيم على أن أفول الكوكب غير جائز في حق الخالق
وجب علينا النظر في أمرين
أحدهما : ما هو الأفول ؟
والآخر : كيف يدل الأفول على عدم ربوبية الكوكب ؟
أما الأول
الأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره ، إذاً فهو يدل على الحدوث
قال النحوي الأخفش الأوسط (215هـ) :
(وإنما هذا مثل ضربه لهم ليعرفوا إذا هو زال : لا ينبغي أن يكون مثله إلهاً ، وليدلهم على وحدانية الله ، وأنه ليس مثله شيء)
معاني القرآن ج1 ص306 رقم398
قال اللغوي ابن فارس (395هـ) :
(وكل شيء غاب فهو آفل
قال الخليل : وإذا استقر اللقاح في قرار الرحم فقد أفل)
معجم مقاييس اللغة ج1 ص119 / مادة أفل - دار الفكر
لكن لِمَ ترك إبراهيم الاستدلال على حدوثها بالطلوع وعول على إثبات الشرك بالأفول ؟! (طالما أن الطلوع والأفول حادثين)
والجواب :
لأن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد أن يكون ظاهراً جلياً بحيث يشترك في فهمه العالم والجاهل
ودلالة الأفول دلالة ظاهرة كونه انتقال مع اختفاء واحتجاب ... فتستوي العقول في فهمه لأن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكان الشاهد أتم
البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي ج4 ص172 - دار الكتب العلمية
أما الثاني
كون الكوكب له أفول ، أفيمنع ذلك من ربوبيته ؟!
والجواب من وجهين ؛
1ً- أن الإله صمد لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كل شيء ، فإذا ثبت أن الأفول من علامات الحدوث وجب القطع باحتياجها لمن أحدثها وبالتالي أثر في أفولها
وبذلك يثبت لدينا أن الأفول من صفات المحدثات التي لا تستحق أن تقوم بذاتها فتكون إلهاً يعبد
ويكون المعنى
لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال فإن ذلك دليل على الحدوث وهو من صفات الأجرام والرب لا يجوز عليه التغير والانتقال
الكشاف - الزمخشري ج2 ص366
التسهيل لعلوم التنزيل - ابن جزي ج1 ص277
تفسير الجلالين ص137
قال الصحابي قتادة بن النعمان (28 هـ) :
(علم - سيدنا إبراهيم عليه السلام - أن ربه دائم لا يزول)
تفسير ابن أبي حاتم الرازي ج4 ص1329 رقم7515
جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج9 ص356 / ج24 ص736
تفسير ابن كثير ص700
2ً- أن أفول الكوكب دال على عجزها عن الخلق والإيجاد بل والتأثير بأفول غيرها ، ولزم التسلسل وهو محال
نضيف لذلك أنها لو لم تكن متأثرة بغيرها لبقي احتمال ذلك في غيرها من المخلوقات ولعبدت مخلوقات غيرها كونها مشتركة معها في هذه الصفة
قال ناصر الحديث الشافعي (150 - 204) هـ :
(واعلموا أن العالم اسم لجميع ما سوى الله من عرشه وكرسيه وسمائه وأرضه وحيوانه وجماده ناطقاً ساكتاً محدث كائن بعد أن لم يكن والدليل عليه أنه قد ثبت أن العالم يتغير من صفة إلى صفة ومن حال إلى حال لا ينفك عن الألوان المختلفة والأكوان المتباينة والحوادث المتعاقبة وما لا ينفك عن الحوادث ولم يسبق فهو محدث مثلها لأنه لا يعقل وجود الأجزاء الكثيرة إلا مجتمعة أو متفرقة أو متقاربة أو متباعدة والاجتماع والافتراق حوادث وفي معنى قوله هذه الدلالة قوله عز وجل في قصة إبراهيم عليه السلام "فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي" الآية ... حين نظر إلى الكواكب والشمس والقمر متغيرات في صفاتها فأخرجها عن ربوبيته بعلة الأفل والزوال والتنقل من حال إلى حال)
الفقه الأكبر ص5
وقال الإمام المزني (270 - 356) هـ في معرض حديثه عن صفتي النزول والمجيء :
(والنزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال بل هما صفتان من صفات الله تعالى بلا تشبيه جل الله تعالى عما تقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها علواً كبيراً)
السنن الكبرى - البيهقي ج3 ص4 رقم4655
--------------------
8- أن من يكون له كيفية لا يستحق أن يكون إلهاً لقوله
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام : 78]
فبيّن أن الكيفية (هذا أكبر) هي من صفات المخلوقات المحدثات وأن من نسبها لخالقها يكون مشركاً لأنه وصف الله بصفات مخلوقاته فوقع في الوهم
قال النحوي الفراء (144 - 207) هـ :
(إنما قال : هذا ربي ، استدراجاً للحجة على قومه ليعيب آلهتهم أنها ليست بشيء وأن الكوكب والقمر والشمس أكبر منها ولسن بآلهة)
معاني القرآن ج1 ص341 - عالم الكتب
قال الإمام الطبري (224 - 310) هـ :
(وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه ، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام ، إذْ كان الكوكبُ والقمرُ والشمسُ أضوأ وأحسنَ وأبهجَ من الأصنام ، ولم تكن مع ذلك معبودة ، وكانت آفلةً زائلة غير دائمة ، والأصنام التي [هي] دونها في الحسن وأصغرَ منها في الجسم ، أحقُّ ألا تكون معبودة ولا آلهة)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج9 ص360
وقال أيضاً مفسراً قوله "إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض" :
(... إني وجهت وجهي في عبادتي إلى الذي خلق السماوات والأرض الدائم الذي يبقى ولا يفنى ويحيي ويميت ، لا إلى الذي يفنى ولا يبقى ويزول ولا يدوم ولا يضر ولا ينفع)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج9 ص363 / ج24 ص737
قال الإمام ابن عطية (481 - 541) هـ :
(ثم عرض إبراهيم عليهم من حركته وأفوله أمارة الحدوث ، وأنه لا يصح أن يكون رباً ثم في آخر أعظم منه ثم في الشمس كذلك ...)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ص638 - دار بن حزم
----------------------------------------
----------------------------------------
----------------------------------------
الفوائد التي نستخلصها من الوحي الإلهي :
1- أن النقل الصريح والعقل الصحيح لا يتعارضان بل يعضد أحدهما الآخر ... بخلاف المعطلة الذين يقدمون العقل على النقل وبخلاف المجسمة الذين يقدمون النقل على العقل
2- أن الاستدلال بالعقل على وجود الله هو من أسس المنهج الإسلامي عند كل الأنبياء ، ولذلك شرط أهل السنة الماتريدية معرفة الله بالعقل ولو بدليل واحد
3- أن الله جل جلاله ليس بجسم إذ لو كان جسماً لكان غائباً آفلاً أبداً وبالتالي يمنع تنقل الذات الإلهية من مكان لآخر وإلا تحقق معنى الأفول
4- أن الله يغير ولا يتغير ، فلو كان متغيراً لكان في مخلوقاته من أثر في تغيره وهذا محال
5- أن الذات الإلهية ليست محلاً للصفات المحدثة كما تقول الكرامية والمجسمة وإلا لكان متغيراً
والحمد لله رب العالمين[center]